المقال السابق

دولي البنتاغون ينقل حوالى 1600 من قوات الجيش إلى منطقة واشنطن
03/06/2020

المقال التالي

خاص قوات طوارئ عدن تعلن ضبط خلية اغتيالات تابعة لجماعة الاخوان 
02/06/2020
رأي احتجاجات مينيابوليس أذابت مساحيق الديمقراطية والحريّات بأمريكا...!

  *مصطفى قطبي               

الأحداث الدامية التي تشهدها المدن والولايات الأميركية، تميط اللثام بوضوح عن الوجه الحقيقي للديمقراطية وحقوق الإنسان الأمريكية، حيث تعيش عدد من المدن والولايات الأمريكية على وقع احتجاجات عنيفة، حيث أشعل المقطع المصور لمقتل المواطن الأميركي ذو الأصول الأفريقية، ''جورج فلويد'' فتيل غضب... مواجهات في أكثر من عشرين مدينة أمريكية، بينها لوس أنجلوس وشيكاغو وأتلانتا ووصلت إلى البيت الأبيض بواشنطن، ما دفع السلطات في هذه المدن والولايات إلى فرض حظر تجول، في حين استدعت ولايات عدة قوات الحرس الوطني للمساعدة في قمع الاحتجاجات، التي لم تشهد الولايات المتحدة مثيلاً لها من قبل.

يقول ناشطون في مجال الحقوق المدنية، إنه يستعر منذ وقت طويل في منيابوليس وعدد من المدن في أنحاء أمريكا بسبب ما وصفوه ب''التحيز العنصري المستمر'' في نظام العدالة الجنائية الأميركي. بدوره فقد اتهم المرشّح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية ''جو بايدن''، ترامب، الديموقراطي الرئيس الجمهوري ''دونالد ترامب'' بأنّه "يستخدم الجيش الأمريكي ضدّ الشعب الأمريكي" ويستخدم الغاز المسيّل للدموع ضدّ "متظاهرين سلميين" وكل هذا لمجرّد الترويج لنفسه، وذلك بعيد زيارة مفاجئة قام بها ترامب إلى كنيسة مجاورة للبيت الأبيض.

للأسف المأسوف على شبابه، أنّ الإدارة الأمريكية التي تتشدق بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية تقتل شعبها... مسلسل العنف والعنصرية الذي تمارسه الشرطة الأمريكية ضدّ السكان السود، الفئة المهمّشة في المجتمع الأمريكي، التي تعاني أكثر من غيرها من مشاكل الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم والخدمات الاجتماعية، لا يزال في تصاعد خطير للغاية. وفي هذا السياق، عبرّت منظمات حقوقية ومؤسسات دولية عن قلقها بشأن عنف الشرطة الأمريكية والاستخدام المفرط للقوة من قبل عناصر الشرطة ضدّ المحتجين وكذلك الاعتقالات، ناهيك عن قضية التمييز العنصري وكان الأمين العام لمجلس أوروبا ''ثوربيورن يغلاند'' قد أكّد سابقاً أن أعمال الشرطة الأمريكية هذه ''تعدّ خرقاً لكل القوانين والمواثيق الدولية''. 

أما منظمة العفو الدولية ''أمنستي''، فقالت: إن ''الشرطة الأميركية تفشل في شتى أنحاء البلاد اتجاه التزاماتها القانونية الدولية وفي احترام وتسهيل الحق في الاحتجاج السلمي، مما يفاقم الوضع المتوتر ويعرض حياة المتظاهرين للخطر، ويجب وقف جميع أشكال القوة غير الضرورية أو المفرطة على الفور''. 

وللذين على عيونهم غشاوة، فأمريكا هي أرض معركة أكثر من كونها وطناً، حيث تعمل جميع الأجهزة بشكل مشترك مع الحكومة والسلطات المحلية ضد مصالح معظم سكان الولايات المتحدة، فيمكن إلقاء القبض على أي شخص وإلصاق تهمة له ومقاضاته وسجنه لأي سبب من الأسباب أو دون أي سبب على الإطلاق، بتوجيه من إدارة الرئيس، يمكن قتل أي مواطن أمريكي داخل البلاد أو خارجها. وبالإمكان القبض على آخرين واحتجازهم لأجل غير مسمى دون توجيه تهم لهم في السجون العسكرية، فإرهاب الدولة هو السياسة المطبقة في الداخل والخارج، وذلك هو العمل الذي تقوم به شرطة الدولة. وعلاوة على ذلك، الحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الديمقراطية غير معمول بها، فدعم ما هو حق شيء خطير، ومن يخاطر بتحدي واشنطن في السيطرة على العالم تكون عقوبته الاضطهاد أو الموت، وبذلك تعتبر أمريكا غير صالحة أو آمنة للعيش فيها. هذه هي حقيقة البيت الداخلي للنظام الأمريكي الغريب العجيب، القائم على سياسة التكاذب والنفاق، هذه السياسة التي أودت بجلال ''الوقار الديمقراطي'' الذي حرصت أمريكا على تظهيره كهويةٍ مميزة، وبالمقابل طمس أي صورة مغايرة، والعمل على رسم صورة ''مخملية'' لا تمت للواقع بصلة. 

إن الدروس الأمريكية في الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحولت بعد الاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في مينيابوليس بولاية مينيسوتا، والتي اتسعت رقعتها إلى مدن وولايات أخرى، تحولت إلى تساؤلٍ كبير، عن مدى مصداقية هذا النهم الأمريكي للتشاطر و ''الأستاذية'' في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان! ويبدو أن الدرس الأمريكي، في زمن الكورونا، جاء في الوقت المناسب تماماً، ولعله من المصادفات الحسنة القليلة بل النادرة، أن يتزامن مع حالة ''السعار الديمقراطي والحقوقي'' التي انتابت هذا النظام، الذي فرَّغ هذا الشعار من محتواه، بل تلاعب بـ''مورثاته''، فحوله ''سلاحاً هجومياً'' ينقض به على كل من تسول له نفسه مخالفة آرائه وتوجهاته، أو التغريد خارج سرب سياسته، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب لا الأنظمة، فالمشكلة الحقيقية للنظام الأمريكي العقيم، لم تكن يوماً مع الأنظمة، بل مع الشعوب، بوصفها الحامل الأساسي للقيم المتوارثة في مجتمعاتها، والمنتج الحقيقي للنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنشأ من خصوصياتها. 

ومما يدعو للقرف، ما أظهره الأوروبيون حيال الجريمة الأمريكية الوحشية، والمُمارسة العنصرية المَقيتة، حيث اكتفوا بعدم الرد! وكأن المفاجأة قد ذهبت بألسنتهم، أو أن هذا اللسان ليس لمقاربة مثل هذه الأحداث المزلزلة. الموقفُ الانهزامي الحالي للعالم الغربي ''المتحضر'' تجاه الممارسات العنصرية بأميركا، هل هناك من احتمالات لأن يكون مُتطابقاً مع مَوقفه لو أن ما يَجري في أميركا جرى في مكان آخر؟ أم إنه كان سيَنبري بطلبات وطلبات بعقد جلسات مُتعاقبة طارئة لمجلس الأمن للضغط والتَّسييس والاستهداف، بل للتهديد بالفصل السابع، وربما تَسجيل الذهاب المُباشر برعونة لتشكيل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة يعتدي، يُهاجم، يَحتل، ويَفرض أجندات سياسية استعمارية لا علاقة لها بالحالة والمَوقف.

هي عدالة القوة وليست قوة العدالة، هذا هو المنطق الذي يحكم العالم اليوم، فالتعامل الدولي ينطلق من مبدأ القوة، فبقدر ما تكون الدولة قوية وتفرض سطوتها وهيبتها وتكون متقنة تماماً للعبة الدولية تكون مهابة الجانب وكلمتها مسموعة والعكس صحيح... ومن هذا المنطلق هذه الدول الكبرى تستطيع أن ترتكب وتتجاوز وتتدخل على مساحة الكرة الأرضية دون أن يحدها ضوابط قانونية، وبالتالي العصر الذي نعيشه هو عصر القوة الذي نسف القوانين والأنظمة الدولية وسيطر عليها، يفعلها متى شاء ويعطلها بالشكل الذي يخدم مصالحه. 

ورغم أن الأوروبيين يصرون على رفض فكرة العدوى المحتملة لانتقال المشاهد من الشوارع الأمريكية إلى أزقة المدن الأوروبية، فإنهم في الحقيقة يتلمسون مؤشرات الخطورة في الاتساع المطرد الذي شهدته مدن وولايات أمريكا، التي عكست مفاجآت غير متوقعة، بل لم يكن أكثر المتشائمين في أوروبا ينتظر أن يرى ما يراه في تلك الشوارع، وأن يكون التعاطي الأمريكي معها بهذا الارتباك والعنف ضد المحتجين، وأمريكا من المفترض أن تختزن تراكمات من الخبرة في مواجهة مثل هذه الأحداث والاحتجاجات. 

لقد حان الوقت لأن تكف جوقة تزييف الوعي والتاريخ والجغرافيا عن بث أكاذيبها وسمومها، فالوقائع المتلاحقة والمتسارعة، تفضح الحجم الهائل من الدجل والنفاق المتواصلين منذ عقودٍ خلت، والحل الأنسب هو في عودة هذه ''الفئة الضالة المضلة'' إلى رشدها قبل فوات الأوان، وسعيها إلى ''قلع أشواكها'' بأيديها، والنأي بأنفسها عن دس أنوفها فيما لا يعنيها، والالتفات نحو مجتمعاتها، ودراسة واقع كل منها بشكلٍ متأنٍّ، بعيداً عن نبرات التعالي والغطرسة والعنجهية، التي لطالما تحكمت بلغتها المستخدمة، هذه اللغة ''الممجوجة'' التي تزخر بالكثير الكثير من المفردات الفظة والغبية والوقحة، والتي لا تجد لها اليوم محلاً من الإعراب. 

إن حوادث قتل المواطنين السود المتكرّرة وتبرئة الشرطة، أثارت تساؤلات كثيرة حول هذه التجاوزات وعدالة القضاء الأمريكي، وبحسب بعض الخبراء فإن هذه الممارسات قد أثبتت زيف الشعارات التي ترفعها الولايات المتحدة بخصوص الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان. ولعله من المناسب الآن، أن أدعو كمواطنٍ عربي تضرَّرَ كثيراً، كغيره من العرب، من التدخل الأمريكي في شؤون الدول العربية الداخلية، أن أدعو الرئيس الأمريكي ''ترامب''، إلى عدم انتهاج ''الحل الأمني'' مع المحتجين، والعمل على ''محاورتهم'' بدلاً من استدعاء عشرات الآلاف من رجال الشرطة، و تدخل الحرس الوطني والقوات الخاصة، والتهديد باعتقالات واسعة لمثيري الاحتجاجات. 

أمريكا في عهد ترامب، منهكة سياسياً واقتصادياً ويتعين عليها أن تستجيب لمطالب المحتجين بتوجيه أولوياتها نحو إحقاق العدالة والقضاء على التمييز العنصري، وإقرار قوانين لتقييد استخدام القوة المميتة كملاذ أخير لمنع تعريض أرواح الأشخاص لتهديد وشيك، وأن على الكونغرس تمرير قانون (السلام) لخلق معايير اتحادية وتحفيز إصلاحات في الدولة.

أمريكا لم تعد قادرة على فرض قيمهما ومصالحها من خلال التدخل العسكري باهظ الكلفة في دول نائية. فعبر عقود كانت أمريكا تمارس  ''أستاذيتها'' على الآخرين، وتعاملت بكثير من الفوقية مع شعوب العالم الأخرى، وكانت المنطقة العربية مركزاً متقدماً لنماذج من الصلف الأمريكي المغالي في أحاديته. واليوم حيث تقف السياسة الأمريكية في محاكاة أزماتها أمام حائط مسدود عبرت في جزئية منه أحداث واحتجاجات أمريكا... 

التحركات والاحتجاجات السلمية والمشروعة، باتت تفرض حصارا كبيرا على الرئيس ''ترامب''، قد تدفعه إما إلى التراجع عن سياساته وقراراته الانعزالية الانفرادية، والانصياع لصوت الجماهير من كل الولايات... من أجل الحفظ على التجربة الديمقراطية الأميركية، وإما الدخول في مواجهة مع الشعب الأميركي، ولو كان ثمن ذلك استمراره داخل البيت الأبيض، وإن كان الواضح أن حرص ترامب على إعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة، قد يجعله ينصاع في النهاية لصوت العقل ويرجع عن طريقته في الإدارة، حتى لا يدخل في صدام مباشر مع الشعب الأميركي الذي بات غير راضٍ عن سياساته الرعناء.

خلاصة الكلام: أمريكا اليوم، كما يقول المحلّلون السياسيون، مهدّدة بأن تأكل نفسها، ليس من خارج الدولة، وإنما من داخل الدولة نفسها، وهذا يرجع في رأيهم إلى ربط أميركا مصير الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالنمو الهائل لقوة الأجهزة العسكرية والاستخباراتية التي تعمل وفق قوانين بوليسية خاصة بها، بما فيها برامج المراقبة والتجسس على الشعب الأمريكي، والعالم برمّته، ويبرز ذلك ويكشفه كل مَنْ كان يعمل في دهاليز سياساتها ومخططاتها السرّية.

باحث وكاتب صحافي من المغرب.


 

بريد المحور

الكلمات المفتاحية

مقالات المرتبطة