كتبت صحيفة "الاخبار" تقول : رُفع الدعم عن استيراد السلع الرئيسية. عمليّاً، هذا هو الواقع الذي فرضه مصرف لبنان على المقيمين في لبنان «عا الناعم». وقد بدأت مؤشراته تظهر منذ يوم الخميس، مع تسويق شركات عدّة مُستفيدة من تسهيلات «المركزي» بأنّ الاستيراد المدعوم انتهى! حصل ذلك قبل أن تُقرّ الحكومة خطّة «ترشيد الدعم» والبطاقة التمويلية، ومن دون أي استراتيجية حماية اجتماعية تُشكّل سنداً للفئات الشعبية
حاكم المصرف المركزي رياض سلامة لا يرى نفسه معنيّاً بإيجاد حلّ للانهيار الذي زجّ البلد به، نتيجة سياساته النقدية على مدى ثلاثين عاماً. الاقتصاد بالنسبة إليه ليس أكثر من معادلات حسابية، وأداة في خدمة «العربدات المالية» التي يقوم بها خدمةً لمصالحه ومصالح «فئة الـ 1%»، عوض أن يكون بخدمة المُجتمع وحاجاته. المُشتبه فيه بجُرم اختلاس وتبييض أموال، يُصرّ على التربّع في مركزه... مُعطّلاً لأيّ خطة ومُدافعاً عن أعضاء «حزب المصرف» ومُضحّياً بالسكّان. لكنّه ليس «المُجرم» الوحيد، بل ينضمّ إليه أعضاء الطبقة السياسية ــــ برُكنَيها مجلسَي النواب والوزراء ــــ الذين يتصرفون كـ«هواة» أمام واحدة من أكبر المصائب الاجتماعية في تاريخ البلد المُعاصر. آخر تجلّيات قلّة المسؤولية هذه كانت مع مسوّدة «ترشيد الدعم» وإقرار البطاقة التمويلية. المشروع «مش ماشي» وأمامه عراقيل عدّة، أبرزها اثنتان: غياب التوافق السياسي حوله، وعدم الاتفاق المُسبق مع مصرف لبنان على ضخّ البطاقات بالدولار الأميركي. وقد بُحثت المسألتان خلال اجتماعٍ للجنة الوزراء الاقتصادية الخميس، كان مُخصّصاً لاستكمال النقاش «بموضوع البطاقة التمويلية ودرس الخيارات المُتاحة لتأمين التغطية المالية لها».
الأسبوع الماضي، وبعد اجتماع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب مع الرئيس ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، أعلن أنّ البطاقة التمويلية ستُدفع بالدولار الأميركي للمُستفيدين منها (137 دولاراً شهرياً لكل أسرة من أربعة أفراد). قيمة البطاقة مُتواضعة ولن تكفي لسدّ أدنى الاحتياجات، لأنّ رفع الدعم سيترافق حُكماً مع رفع التجّار لأسعارهم وبغياب أي رقابة من الجهات المعنية. قيل يومها إنّ التوافق السياسي مؤمّن أمام إقرار البطاقة، فاعتقد دياب بأنّه قطع نصف الطريق. ولكن، خلال اجتماع الخميس، طرأت تطورات جديدة. الاجتماع غاب عنه وزيرا المالية غازي وزني والصحة حمد حسن، وغادره وزير الصناعة عماد حب الله بعد وقت قصير من حضوره. البعض برّر الأمر بتنظيم إفطار في السفارة الإيرانية، أما غياب وزير الاقتصاد راوول نعمة فكان لارتباطه بلقاء في مرفأ بيروت مع وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان. غيابات وتبريرات تدلّ على عبثية في التعامل مع موضوع يمسّ الأمن الاجتماعي!
خلال اجتماع السرايا، «فاجأ» المدير العام لرئاسة الجمهورية، أنطوان شقير، الحاضرين بالقول إنّ الرئيس عون يُفضّل أن تُعقد جلسة لمجلس الوزراء لبتّ خطّة ترشيد الدعم «لأنّه موضوع حسّاس. ولكن لأنّنا نعرف ظروفك (دياب) ورفضك عقد جلسات حكومية، تعتقد رئاسة الجمهورية أنّه يُمكن إصدار موافقة استثنائية على مشروع ترشيد الدعم شرط نيله موافقة من كلّ الكتل السياسية، وحتى لا يصطدم بأي عوائق».
أبلغت شركات نفط موظّفيها التعامل مع الطلبات الجديدة بوصفها غير مدعومة
النقطة الثانية التي أثارها شقير هي ضرورة رفع الدعم تدريجياً، وهو نفسه الموقف الذي عبّر عنه بيان كتلة الوفاء للمقاومة أوّل من أمس برفضها «رفع الدعم الكامل عن السلع والحاجات الأساسية والحيوية للمواطنين. الخيار البديل الواقعي هو العمل على خيار ترشيد الدعم ضمن برنامج مضمون التمويل». يقول أحد الوزراء المُشاركين في الاجتماع إنّ «دياب لن يوافق على رفع الدعم قبل إقرار البطاقة التمويلية، وفي الوقت نفسه مصرف لبنان هدّد بأنّه بعد شهر رمضان سيتغيّر الوضع، على أن يتوقّف عن دعم استيراد السلع في نهاية أيار كحدّ أقصى. نحن أمام خيارات أحلاها مُرّ، وكلّها لها انعكاسات سيئة على الناس». وفي هذا الإطار، أعلنت أمس نقابة مستوردي الأجهزة والمستلزمات الطبية تبلغها من المصارف «وقف قبول ملفات جديدة إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من مصرف لبنان بموجب آلية لم تتضح معالمها وآليتها بعد ضمان قبول الملف... عدم قبول الملفات سيضطر الشركات الى التصرف بالبضائع الواصلة حديثاً على أنّها غير مدعومة». وعلمت «الأخبار» أنّ شركات نفط أبلغت موظفيها قبل يومين التعامل مع كلّ الطلبات الجديدة بوصفها غير مدعومة. أما بعض التجار وأعضاء «الكارتلات» فقد راسلوا وزارة الاقتصاد لإلغاء طلبات استيراد مواد مدعومة.
النقطة الثالثة التي كانت محور بحثٍ في اجتماع السرايا الحكومية، هي مصدر تمويل البطاقة بالدولار. سألت وزيرة المُهجرين غادة شريم: لماذا لا يُستفاد من القروض غير المعمول بها بعد لتمويل البطاقة؟ فيما نقل أحد الوزراء أنّ دياب «لا يزال ينتظر جواب القطريين حول موافقتهم على تمويل البطاقة». ولكن مصرف لبنان، وهو «خزنة» الدولة الوحيدة بالعملات الأجنبية، عمد في الأشهر الماضية إلى «احتكار» مواردها بالدولار (تحديداً التي تصل من البعثات الأجنبية) ويُعطيها ما يُعادلها بالليرة اللبنانية وفق سعر 1507 ليرات/ الدولار، وكان يُفاوض ليقبض هو دولارات قرض البنك الدولي والمنظمات الدولية، على أن يُعيد توزيعها على المستفيدين منها بالليرة، لماذا لا يشارك؟ لأنّ «المركزي» قرّر أن يرمي باللبنانيين في المجهول، رافضاً ضخّ دولار واحد في البطاقات التمويلية، على قاعدة «ليست مسؤوليتي، فلتتدبر الحكومة أمورها». مصرف لبنان يبتزّ السلطة السياسية، يُريد أن يتم إصدار قانون يُشرّع له الصرف من حساب التوظيفات الإلزامية لديه، الذي يُسميه حساب الاحتياطي الإلزامي. هو اختراعٌ لسلامة، غير منصوص عليه في أيّ نص قانوني، استخدمه لنهب دولارات المودعين والمُساهمة في تكوين أرباح المصارف، قبل أن «يستفيق» على حقوق الناس. ومن هذا المنطلق أتى ردّ الحكومة له، الرافض لتشريع المسّ بالاحتياطي، لأنّه «لسنوات كان سلامة يمسّ بدولارات الاحتياطي ولم يسبق له أن طلب غطاء قانونياً»!
تقول مصادر متابعة لخطة «ترشيد الدعم» إنّه يُمكن «نعي البطاقة التمويلية وكلّ المشروع». وتبقى نتيجة كلّ هذا التخبّط واحدة: لبنان دخل نفق رفع دعم الاستيراد من دون حماية اجتماعية.
صحيفة الاخبار