*مصطفى قطبي
يحيي الشعب الفلسطيني الذكرى الـــ73 لنكبته الكبرى، نكبة فلسطين، ونحن العرب نعيش الذكرى، كما نعيش نكبات شتى على امتداد الجغرافيا العربية، والمرير اليوم أن تطل علينا ذكرى النكبة في ظل أجواء عربية ملبدة بالنكبات المتتالية، بسبب الفوضى الهدامة التي نشرتها إسرائيل ومشغلوها الأمريكيون والغربيون في منطقتنا من العراق إلى سورية وليبيا واليمن...، ودعمهم للإرهاب الذي جاؤوا به تحت ستار "الربيع العربي" المزعوم، فدمروا بلدانا عربية بأكملها ونشروا الحروب والإرهاب على أراضيها كي يستفردوا بالفلسطينيين ويشغلوا محور المقاومة بالتصدي للإرهاب ومفاعيله التدميرية. والمفارقة المثيرة للاستنكار أن هذا اليوم الذي يعد رمزاً لتهجير الفلسطينيين الجماعي وطردهم القسري من أرضهم ووطنهم يعتبره المستوطنون القادمون من شتى بقاع الدنيا يوم قيام كيانهم العنصري ويطالبون الفلسطينيين بعدم الحديث عن أي إشارة لها علاقة بالنكبة بل والاعتراف بيهودية هذا الكيان التوسعي العدواني، في تناقض لكل الشرائع والقوانين الدولية.
في ذكرى النكبة، لا بد سنوياً من استحضار جملة من الحقائق الأساسية التي تسعى سلطات الاحتلال إلى طمسها، وإحلال خرافاتها وأكاذيبها محلها، في جهدها غير المنقطع لتحريف التاريخ وطمس الذاكرة الفلسطينية. فقد شكلت أحداث نكبة فلسطين وما تلاها من تهجير، وولادة ظاهرة اللجوء الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، مأساة كبرى للشعب العربي الفلسطيني، فقد جرت عملية تطهير عرقي، تم من خلالها تدمير وطرد شعب بكامله، وإحلال جماعات وأفراد من شتى بقاع العالم مكانه، وتشريد ما يربو عن ثمانمائة ألف مواطن فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 في 1.300 قرية ومدينة فلسطينية، عدا عن المواطنين العرب من سوريا ولبنان والأردن، والذين كانوا يقيمون في فلسطين بشكل دائم بقصد العمل، حيث انتهى التهجير بغالبيتهم إلى عدد من الدول العربية المجاورة (دول الطوق: الأردن وسوريا ولبنان) إضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلا عن التهجير الداخلي للآلاف منهم داخل الأراضي التي أخضِعَت لسيطرة الاحتلال عام النكبة وما تلاها بعد طردهم من منازلهم والاستيلاء على أراضيهم.
وحسب معطيات المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني في رام الله، وتحديدا يوم 13/5/2020، فقد سيطر الاحتلال الإسرائيلي خلال مرحلة النكبة على 774 قرية ومدينة فلسطينية، حيث تم تدمير 531 منها بالكامل ومسحها من الوجود، وبناء المستعمرات مكانها، وما تبقى تم إخضاعه إلى كيان الاحتلال وقوانينه، وقد رافق عملية التطهير هذه اقتراف العصابات الصهيونية أكثر من سبعين مجزرة بحق الفلسطينيين أدت إلى استشهاد ما يزيد عن خمسة عشر ألف مواطن فلسطيني. ووفق معطيات المكتب المركزي للإحصاء، فقد بلغ عدد السكان في فلسطين التاريخية عام 1914 نحو 690 ألف نسمة، شكلت نسبة اليهود 8 في المائة فقط منهم، وفي العام 1948 بلغ عدد السكان أكثر من مليوني نسمة، منهم حوالي 31.5 في المائة منهم من اليهود، وقد ارتفعت نسبة اليهود خلال تلك الفترة كما هو ملاحظ، بفعل توجيه ورعاية هجرة اليهود إلى فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني، حيث تضاعف عدد اليهود أكثر من ستة مرات خلال الفترة ذاتها، وقد تدفق بين أعوام 1932 و1939 أكبر عدد من المهاجرين اليهود، وبلغ عددهم نحو 225 ألف يهودي، كما وتدفق على فلسطين بين عامي 1940 و1947 أكثر من 93 ألف يهودي.
وبهذا تكون فلسطين قد استقبلت بين عامي 1932 و1947 ما يقرب من 318 ألف يهودي، ومنذ العام 1948 وحتى العام 1975 تدفق أكثر من 540 ألف يهودي، عدا عن موجات الهجرة من دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى فلسطين عامي 1990 ـ 1991، وهي موجات الهجرات الأكبر في تاريخ قيام دولة إسرائيل، والتي تم بفعلها إحداث التحول السكاني اليهودي بعد أن كانت أعداد المواطنين العرب على أرض فلسطين التاريخية قد تجاوزت أعداد اليهود. وعلى الرغم من تشريد أكثر من ثمانمائة ألف مواطن فلسطيني في عام النكبة 1948، ونزوح أكثر من مائتي ألف فلسطيني غالبيتهم إلى الأردن بعد حرب حزيران ـ يونيو 1967، فقد بلغ عدد الفلسطينيين الإجمالي في العالم في نهاية العام 2019 حوالي 13.4 مليون نسمة، ومع العام 2020 نحو 13.6 مليون فلسطين، ما يُشير إلى تضاعف عدد الفلسطينيين أكثر من تسعة مرات منذ النكبة عام 1948، أكثر من نصفهم (6.64 مليون) نسمة على أرض فلسطين التاريخية.
فالمسألة لا تتعلق بالتأريخ للنكبة أو تنشيط ذاكرة وطنية وقومية، بقدر ما هي حالة نقدية وتبصر للمستقبل فيه استعراض لمسار أكثر من سبعين عاماً من الصراع العربي ـ الإسرائيلي يمكن القارئ الموضوعي من الوقوف عند عناصر القوة والضعف في ذلك المسار والتي يمكن إدراجها بما يلي:
أولاً- في عناصر القوة:
أولا: تمسك الشعب الفلسطيني بالأرض وعدم مغادرته رغم أنه تم طرد 85 بالمائة منه.
ثانياً: اعتماد خيار المقاومة ورفض الاستسلام.
ثالثاً: التركيز على البعدين العربي والإسلامي للصراع، ولاسيما أن العدو الإسرائيلي عمل جاهداً على "فك الارتباط" بين فلسطين والعرب، وفلسطين والمسلمين، ولعل قيام الثورة الإسلامية في إيران وتبنيها لقضية تحرير فلسطين في خطابها وسلوكها العملي، أعطى للصراع دينامية جديدة وشكل صداعاً ومأزقاً للإسرائيلي، حيث أصبحت إيران طرفاً أساسياً وفاعلاً في تضاريس الصراع، وهو ما يفسر إلى حد كبير الاستهداف الغربي للثورة الإسلامية، وهذا لا يعني طبعاً أسلمة أو تديين الصراع، فالمسألة لا تتعلق بكراهية لليهود وإنما للحركة الصهيونية بوصفها حركة عنصرية استعمارية احتلالية وتوسعية.
رابعاً: سقوط مشرعات ما سمي تسوية سياسية، بسبب رفض سورية لها لأن التسوية بحد ذاتها تنطوي على تنازلات، ونشير هنا إلى موقف القائد المؤسس حافظ الأسد الذي رحل ولم يوقع وتمسك السيد الرئيس بشار الأسد بالنهج ذاته.
خامساً: استمرار وتقوية محور المقاومة وتوسيعه شعبياً وإقليمياً.
سادساً: إعادة الاعتبار للبعد العالمي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني وليست "نزاعاً" على أرض أو سلطة.
ثانياً- في عناصر الضعف:
أولا: الانقسام الفلسطيني وعدم التمسك بميثاق منظمة التحرير.
ثانياً: اتباع الخيار "التسووي" مع العدو جعل الفلسطيني يطالب والإسرائيلي يرفض ولا توجد آلية لإكراه الإسرائيلي على الاستجابة أو عدم تجاوز الممنوع ولاسيما أن الأمريكي هو "الضامن".
ثالثاً: محاولات تحويل الصراع من صراع على أرض إلى "صراع على السلطة".
رابعاً: محاولات فك الارتباط بين فلسطين والعالمين العربي والإسلامي من خلال الحديث عن "نزاع" بين الفلسطينيين والإسرائيليين!
خامساً: دعوات التطبيع الاجتماعي والثقافي مع العدو بجعله "مقبولاً شعبياً" وكسر حالة العداء معه بعد فشل أسلوب التطبيع السياسي مع مصر والأردن والاقتصادي مع بعض دول الخليج.
سادساً: غياب آلية لمواجهة الاستيطان والاعتماد على أمريكا في الحل السياسي وهي طرف في الصراع.
سابعاً: ضعف المشروع الوطني الفلسطيني والتراجع الأميركي عن فكرة "حل الدولتين".
ثامناً: عدم توفر إرادة دولية لمواجهة "إسرائيل" بل دعمها من معظم القوى الكبرى.
تاسعاً: محاصرة واستهداف محور المقاومة وإشغاله بأمور هامشية عن قضيته الأساسية وهي التحرير.
اليوم في ذكرى النّكبة علينا أن نؤكد، أنّه ليست فقط هزيمة عربية حصلت، أو أرضاً احتلت، أو حقوقاً اغتصبت، أو مقدسات دنست، أو شعباً شرد في أربع جهات الأرض... النكبة اليوم إخفاقات عربية، وجسم قومي فقد المناعة تجاه السرطان الإسرائيلي... النكبة اليوم شعب فلسطيني محكوم بانقسام نخبته ''الحاكمة'' التي تبحث عن ''مصالحة'' ولا تستطيعها، وباتت عاجزة حتى عن تحمل مسؤولياتها الوطنية والتاريخية... النكبة اليوم مصطلح سياسي استوطن قاموسنا اللغوي، واستتبع مفاوضات واعترافاً وتطبيعاً ومساومات مع المحتل الغاصب، فيما ''إسرائيل'' تضغط لإلغائه بالقوة، وذلك لإلغاء حق العودة لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني لا يزالون مسجلين لدى وكالة الغوث ''الأنروا'' ويقيم معظمهم في مخيمات اللجوء في الأردن وسورية ولبنان والضفة والقطاع... النكبة اليوم هي أن المستوطن الصهيوني لا يزال فالتاً من أي محاسبة أو مساءلة على إجرامه وسرقته الأرض واعتدائه على المقدسات، وأن حكومة ''اليمين المتطرف'' لا ترى موجباً لقيام دولة فلسطينية، ولو قامت فيجب أن تلبي ''المصالح والحاجات والأطماع الإسرائيلية'' أكثر مما تحاكي الحقوق الوطنية والشرعية للشعب الفلسطيني.
إنها النكبة المتخمة سنواتها العجاف بالعار الدولي والخزي العربي، والآلام والأحداث والتداعيات والمعاناة الفلسطينية، ولكن الأكثر إيلاما في ذكراها الـ72 هو أن يترك الشعب الفلسطيني يحييها وحده، بعد أن أدرك شيئاً فشيئاً أن قضيته الإنسانية الحقوقية الوجودية الأخلاقية، لا تخص أحدا في هذا الكون غيره، وأصبحت الجريمة المستمرة فوق أرضه، والوقائع المستنكرة من كل القوانين والأعراف الدولية والأخلاقية مجرد ذكريات، فيما النظام الرسمي العربي الحاضن قضية الأمة المركزية والمشارك عن عمد أو غباء في الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني..
إن الاحتلال والذي أراد من النكبة أن تكون هي الميدان لقضم المزيد من الأرض، وفرض مستوطناته وزج الشباب الفلسطيني في السجون والمعتقلات، إضافة إلى ارتكاب الجرائم والمذابح، وسيطرة قوانينه الباطلة وغير الشرعية على الشعب والمدن والقرى والبلدات، إلا أن النكبة كانت ومازالت هي الحافز الأهم على المقاومة وفي أن تظل القضية الفلسطينية هي البوصلة، وهي الرافعة القومية العربية، فقد تحدث العدو مراراً وتكراراً عن الأرض التي سلبت والتي يقوم بتهويدها وصهينتها، بالادعاء أن جيل النكبة وبعد أن يأخذ به العمر، سينسى الأبناء والأحفاد دروس ومعاني ودلالات وعبر هذه التجربة القاسية مع الاحتلال، إلا أن كل الأجيال التي أعقبت النكبة، كانت أشد إصراراً وتمسكاً بالحقوق في مواجهة الاحتلال وكافة صنوف العدوان المتوحش والمتغول على الشعب والأرض والمصير.
خلاصة الكلام: لن تغلق القضية الفلسطينية لأي سبب، سواء بطريقة متعمدة أو بحالة افتراض، ولكونها أدت إلى ولادة أزمات في المنطقة فيمكن القول أنها تآخت وإياهم، صارت لهم وصاروا لها، ومهما افتكر البعض أن وضعهم الوطني بعيد عن قضية فلسطين فهم مخطئون لأنهم لصيقون بها، وكلما فكروا بها بعيدة عنهم، سيرونها الأقرب إليهم.
كاتب صحافي من المغرب.
بريد المحور