وعد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بأن "لبنان النازف اليوم، قادر على تضميد جراحه واستعادة عافيته، لأن إرادة اللبنانيين مقيمين ومنتشرين صلبة وتعلقهم بوطنهم لا بديل عنه".
وشكر الرئيس عون في كلمة له امام اعضاء السلك الديبلوماسي ومديري المنظمات الدولية الذين زاروه قبل ظهر اليوم في قصر بعبدا للتهنئة بالاعياد، في حضور وزير الخارجية والمغتربين الدكتور عبد الله بو حبيب والامين العام لوزارة الخارجية السفير هاني شميطلي، "جميع الدول على مساعدتها في ظل الظروف الصعبة التي عاشها هذا البلد ولا يزال"، إلا انه لفت الى ان "بعض الجهات تعمل على استثمار هذا الدعم المادي والإنساني لأهداف سياسية وتحت شعارات ملتبسة، خصوصا وأن لبنان على أبواب انتخابات نيابية"، ودعا الى "ضرورة الحذر من هذه المجموعات وحصر الدعم والمساعدة بمؤسسات الدولة والهيئات والمنظمات الإنسانية والدولية التي أثبتت تجردها وحيادها والتزامها المواثيق الدولية التي ترعى حقوق الإنسان".
وشدد الرئيس عون على ان "لبنان بطبيعته ليس ممرا أو مقرا لما يمكن أن يسيء إلى سيادة دولكم وأمنها واستقرارها، ولا يشكل تدخلا في شؤونها الداخلية وخصوصا الدول العربية الشقيقة التي وقفت دوما إلى جانبه، لا سيما في الظروف الصعبة التي مر بها ولما يزل"، وأمل أن تكون مواقف بعض الدول مماثلة لمواقفه، "بحيث لا تستعمل ساحته ميدانا لتصفية خلافاتها أو صراعاتها الإقليمية، ولا تدعم فئات أو مجموعات منه على حساب فئات أخرى".
واكد رئيس الجمهورية عزمه، بالتعاون مع مجلس النواب والحكومة، وبما تبقى من ولايته، على "متابعة العمل على الرغم من كل العراقيل من أجل تحقيق الإصلاحات التي التزمت بها والتي طالما دعت دولكم إلى تطبيقها لا سيما اعتماد خطة التعافي المالي والاقتصادي التي ستقرها الحكومة اللبنانية خلال الاسابيع القليلة المقبلة في مجلس الوزراء الذي سيعود إلى الانعقاد بعد تعطيل قسري لم يكن له ما يبرره مطلقا، بالتزامن مع التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان والإدارات والمؤسسات والمجالس الأخرى، لتحديد أسباب التدهور المالي الذي أصاب لبنان ومحاسبة المرتكبين والمقصرين الذين ساهموا من خلال الفساد الذي مارسوه طوال ثلاثة عقود والهدر والسياسات الاقتصادية والنقدية الخاطئة في تحكم منظومة معروفة بمقدرات البلاد والتصرف بها بما يخدم مصالحها وممارسة سياسة استئثار بحماية داخلية وخارجية".
واعرب الرئيس عون عن أمله بأن اللبنانيين "سيكونون على مستوى المسؤولية خلال الانتخابات النيابية في الربيع المقبل، في إيصال من سيعمل على تحقيق آمالهم وتطلعاتهم لغد أفضل وإرساء أسس نظام سياسي خال من الاستئثار ولا تتولد منه أزمات لا حلولا لها من ضمنه، من هنا دعوتي إلى اعتماد اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وقد دعوت قبل أيام إلى طاولة حوار للبحث فيها وفي الاستراتيجية الدفاعية وخطة التعافي الاقتصادي، لكن بعض القيادات السياسية لم تستجب، ما دفعني إلى التمسك بالدعوة إلى الحوار لاقتناع ثابت لدي بأنه الطريق إلى الخلاص".
وإذ أشار الى رئيس عون الى "استمرار إسرائيل في خرقها القرار الدولي 1701"، جدد "التزام لبنان مضمون هذا القرار، من دون ان يعني ذلك الانكفاء عن المطالبة بحقه في ممارسة سيادته على أرضه ومياهه واستثمار ثروته النفطية والغازية، مع رغبته في التفاوض من أجل ترسيم حدوده البحرية الجنوبية على نحو يحفظ حقوقه في المنطقة الاقتصادية الخالصة وفق ما تنص عليه القوانين والمعاهدات الدولية ذات الصلة".
واكد الرئيس عون ان "الاستقرار في المنطقة لن يتحقق إلا من خلال السلام العادل والشامل والدائم الذي أرست قواعده قمة بيروت 2002، ومن خلال قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس بحيث تتحقق عودة الفلسطينيين الى أرضهم ويسقط نهائيا مخطط التوطين الذي يرفضه جميع اللبنانيين"، وامل ان "يعود الاستقرار الى سوريا، بحيث يعود النازحون في لبنان إلى أرضهم وممتلكاتهم، خصوصا أن لبنان ينظر بريبة إلى مواقف دولية تحول حتى الان دون هذه العودة على الرغم من توقف القتال في مناطق واسعة من سوريا، ما يطرح علامات استفهام حول أسباب عرقلتها".
سبيتري
من جهته، شجع السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتري جميع اللبنانيين على "الثبات في التزامهم بالحرية والحقوق الأساسية والديموقراطية والتضامن، لكي يستمروا في بعث الأمل بإمكانية العيش المشترك المتناغم والتقدم"، ولفت الى ان "المصاعب التي تعرض لها لبنان في العامين الماضيين، مع كل ما حملت معها من آلام، لم تطفئ شعلة الحرية ولا روح التضامن لدى اللبنانيين"، وقال: "لا حلول يمكن التوصل اليها، من دون حوار صادق، قائم على أساس احترام الآخر، كما ذكرتم مؤخرا، يا فخامة الرئيس. بالفعل، إن الحوار المستمر على الأصعدة كافة، وحده، وليس فرض الايديولوجيات، يستطيع أن يساعد في توضيح الاحتياجات الحقيقية لمختلف مكونات المجتمع اللبناني والسماح باتخاذ القرارات الصحيحة وتنفيذها".
وإذ ركز على "أهمية الانتخابات النيابية المزمع اجراؤها في الربيع المقبل"، رأى انه "قد يكون من المفيد أن توقع الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات المقبلة اتفاق احترام متبادل، بدل اللجوء إلى حملات التشهير، صونا لكرامة كل مرشح وكل حزب وكل انتماء".
وكان الاحتفال بدأ بتوافد السفراء، يتقدمهم المونسنيور سبيتري الى القصر الجمهوري على وقع موسيقى الجيش التي عزفت الحانا خاصة بالمناسبة. وبعد اكتمال الحضور، انتقل السفراء الى "قاعة 25 ايار" حيث تبادل الرئيس عون وأعضاء السلك الديبلوماسي التهاني بالاعياد.
السفير البابوي
والقى السفير البابوي كلمة باسم أعضاء السلك، قال فيها: "فخامة رئيس الجمهورية، نشكركم على استقبالكم لنا اليوم، في بداية العام 2022. إنه لشرف لنا جميعا، سفراء وممثلي المنظمات الدولية، أن نتمنى لفخامتكم ولكل شعب لبنان البركات الوفيرة بحلول العام الجديد. لم نتمكن في العام الماضي، للأسف، من المشاركة في هذا الحفل التقليدي والمهم. كان لقاؤنا الأخير في بداية عام اليوبيل 2020، الذي كنا نتمناه، ولأجل ذلك صلينا، أن يكون عاما من التجدد للبنان.
وإذ أعربنا في تلك المناسبة عن أطيب التمنيات، قلنا: "نود أن نشجع اليوم جميع اللبنانيين على الثبات في التزامهم بالحرية والحقوق الأساسية والديموقراطية والتضامن، لكي يستمروا في بعث الأمل بإمكان العيش المشترك المتناغم والتقدم، ليس فقط في بلد الأرز، بل أيضا في البلدان المجاورة. إعتقد الكثير من اللبنانيين أن الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير كانت لتشكل فرصة فريدة للقيام بالإصلاحات الضرورية التي من شأنها أن تعود بالفائدة على جميع المواطنين. ورأى الكثيرون في المظاهرات الحاشدة التي حصلت منذ تشرين الأول 2019، والتي حركتها فئة الشباب اللبناني بشكل خاص، فرصة فريدة لممارسة الضغوطات على القادة السياسيين والسلطات المالية من أجل إحداث تجديد سياسي واقتصادي واجتماعي يشمل لبنان بأسره. لكن، ولسوء الحظ، لم يجر الأمر كذلك.
لقد كان للمحن الشديدة التي شهدها العامان الماضيان وقع كارثي. من منا لم يشعر بالخراب الذي تسببت به جائحة كورونا في اجتياحها كل أنحاء العالم؟ لا زال لبنان يكافح العواقب الوخيمة لهذا الوباء. ومن يمكنه أن ينسى تفجير مرفأ بيروت المأساوي، نتيجة الإهمال الإجرامي؟ من لا يتذكر جميع الضحايا الأبرياء والدمار الهائل الذي تسبب به الانفجار والمشاكل الاجتماعية التي ولدها؟ أو كيف ننسى الضحايا الأبرياء الآخرين نتيجة الإنهيار الإقتصادي؟ وهل يمكننا أن نتجاهل المعاناة المعنوية والنفسية لأولئك الذين دفعوا تحت خط الفقر بسبب سوء الإدارة المالية وغياب المساءلة، وحتى بسبب فساد الكثيرين ممن هم في مواقع السلطة؟ لكن هذه المصاعب، مع كل ما حملت معها من آلام، لم تطفئ شعلة الحرية ولا روح التضامن لدى اللبنانيين!
لا، لم تطفئها، إذ إن هذا ما نراه بأم العين كل يوم. فالناس يكافحون لتدبير معيشتهم، لكنهم في الوقت نفسه يهتمون بمن هم أقل يسرا. وكان هذا التضامن ممكنا أيضا بفضل مساعدة الاغتراب اللبناني، وبفضل المساعدات المتواصلة والسخية التي تقدمها الأمم والمنظمات الدولية الممثلة هنا أمامكم.
فخامة الرئيس، إن العديد من زملائي المحترمين موجودون في لبنان منذ سنوات عدة، وهم، خلال هذه الفترة، قد نموا في محبة اللبنانيين وتقاليدهم، بالرغم من صعوبة فهمها في بعض الأحيان. حتى الديبلوماسيبن الذين وصلوا اخيرا نراهم مشدودين، وبشكل سريع، نحو بلاد الأرز. أغتنم هذه الفرصة لأحيي جميع رؤساء البعثات الذين أنهوا مهامهم في بيروت خلال العامين الماضيين ولأرحب بجميع الوافدين الجدد. إن أسرتنا الديبلوماسية تشارك إخواننا وأخواتنا اللبنانيين شؤونهم وشجونهم اليومية. لا يغفل عنا أبدا أن عددا من البعثات الديبلوماسية تعرضت لأضرار مباشرة وجسيمة جراء انفجار المرفأ في 4 آب 2020، حتى إن بعض هذه البعثات فقدت أفرادا من طواقمها، أمثال زوجة السفير الهولندي السابق ومستشار السفارة الألمانية. اسمحوا لي، فخامة الرئيس، أن أطلب من الحضور الوقوف دقيقة صمت إكراما لذكرى جميع ضحايا مأساة المرفأ من لبنانيين وأجانب. (دقيقة صمت) شكرا.
كما نعلم جميعا، ما انفك المجتمع الدولي يطالب السلطات اللبنانية بتنفيذ رزمة من الإصلاحات. وقد شهدنا خلال العامين الماضيين تعاقب حكومات، مع تسمية رؤساء وزراء، قائمين، مستقيلين أو يتولون تصريف الأعمال. كذلك، نشعر بقلق كبير إزاء الشلل الحالي على صعيد اجتماعات مجلس الوزراء. وإننا، إذ نوجه كل التهنئة إلى دولة رئيس مجلس الوزراء السيد نجيب ميقاتي على قبوله هذه المهمة الصعبة، نتمنى له أيضا النجاح في استئناف نشاط عمل مجلس الوزراء الذي لا غنى عنه. ونأمل في أن يضع جميع الوزراء والقادة السياسيين احتياجات المواطنين على رأس قائمة أولوياتهم وأن يبذلوا قصارى جهدهم للتوصل إلى قرارات مشتركة تضمن استرداد كرامة سكان لبنان جميعهم. ولكن، لا حلول يمكن التوصل اليها، بدون حوار صادق، قائم على أساس احترام الآخر، كما ذكرتم مؤخرا، يا فخامة الرئيس. بالفعل، إن الحوار المستمر على الصعد كافة، وحده، وليس فرض الايديولوجيات، يستطيع أن يساعد في توضيح الاحتياجات الحقيقية لمختلف مكونات المجتمع اللبناني، والسماح باتخاذ القرارات الصحيحة وتنفيذها.
هذا ويصر المجتمع الدولي على ضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة. لا ينبغي لأي حزب سياسي أن يخشى عرض برنامجه ومرشحيه على المواطنين المدعوين للتعبير عن رأيهم السيادي. في الواقع، من واجب المواطنين، لا بل من حقهم، التعبير عن آرائهم بحرية من خلال الإدلاء بأصواتهم، وبالتالي اختيار الأشخاص الذين سيخدمون في مجلس النواب. وقد يكون من المفيد حتما أن توقع الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات المقبلة اتفاق احترام متبادل، بدل اللجوء إلى حملات التشهير، صونا لكرامة كل مرشح وكل حزب وكل انتماء. نحن نفترض أن كل مرشح يحمل خير لبنان في قلبه، وبالتالي ينبغي احترامه.
فخامة الرئيس، كنت يوم السبت الماضي في طرابلس لحضور حفل افتتاح مركز لمساعدة الشباب في التغلب على مشاكل الإدمان على المخدرات، وقد أطلق على هذا المركز بجدارة اسم "فرصة"، وهو كناية عن مبادرة اجتماعية مشتركة بين جمعية "المنهج الخيري" الإسلامية وجمعية "أم النور" المسيحية التي كانت أيضا قد تعاملت مع مؤسسة سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله. وفي ذلك مثال واضح على تعاون لطالما تميز به لبنان في خدمة جميع المواطنين، بحيث يمثل الجذور الراسخة للبنانيين الذين يعرفون كيف يتكاتفون في أوقات الحاجة لتقديم الدعم المتبادل.
بلاد الأرز غنية بأمثلة كثيرة مماثلة في مجالات التعليم والرعاية الصحية، كما على صعيد المبادرات الاجتماعية والفنية. إن آلاف الشباب، إلى جانب فئات أخرى أكثر تقدما في السن، الذين توحدوا تحت راية العلم اللبناني خلال الاحتجاجات الحاشدة على مر العامين الماضيين، لم يمثلوا انتماءات أو أحزابا سياسية، بل تحركوا فقط بدافع محبتهم للبنان. يا له من تناقض مع كل أولئك الذين يحاولون إعادة تأجيج النعرات الطائفية التي تهدد روح الأخوة.
فخامة الرئيس، قبل عشر سنوات، قال البابا بنديكتوس السادس عشر خلال زيارته لبنان الكلمات التالية هنا في القصر الجمهوري: "كل بلد هو غني قبل كل شيء بالأشخاص الذين يحيون على أرضه. يتوقف على كل شخص منهم وعليهم كلهم مجتمعين مستقبله وقدرته على العمل من أجل السلام" (15 أيلول 2012).
نحن ندرك أن الدستور اللبناني يقوم على حقوق المواطنين وليس على مطالب مختلف الانتماءات. إن احترام هذه الحقوق تعزز الأخوة التي هي أساسية في تحديد أخلاقية الممارسة اللبنانية للسلطة، على كل المستويات. في الواقع، ليست السلطة، على مختلف الأصعدة، مجرد إمكانية فرض القوة على الآخرين، بقدر ما هي براعة في فهم احتياجات كل شخص بشري، تسهيلا لنشوء حوار قائم على الاحترام يفضي بدوره إلى قرارات مشتركة لصالح نمو المواطنين والوطن. إن السلطة تحترم قاعدة القانون، كما تعزز الحرية، لأن وحدهم الأفراد الأحرار يستطيعون العمل معا من أجل السلام والتنمية البشرية المستدامة، حيث لا يترك أحد خارجا.
فخامة الرئيس، فيما نتقدم منكم ومن عائلتكم بأطيب التمنيات بحلول العام الجديد، نيابة عن جميع رؤساء الدول الذين لنا شرف تمثيلهم لديكم، نجدد تضامننا الراسخ مع لبنان وشعبه. ونتمنى أن يترفع المسؤولون كافة عن المصالح الطائفية لصالح تعزيز ثقافة الشفافية والمساءلة والعمل معا من أجل إنقاذ لبنان. حسبنا أن نرى اللبنانيين كافة يستعيدون ملء كرامتهم. ونأمل ألا يكون ذلك مجرد فرصة أخرى ممكنة، بل يصبح واقعا بفضل الصمود المعتاد والإبداع والروح الحرة وحس التضامن، التي لطالما تميز بها الشعب اللبناني. بارك الله لبنان وباركنا جميعا. وشكرا".
رئيس الجمهورية
ثم القى الرئيس عون قال فيها: "سعادة عميد السلك الديبلوماسي السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتيري، أصحاب السعادة، يطيب لي أن أرحب بكم في القصر الجمهوري مع بداية السنة الجديدة، في هذه المناسبة التقليدية التي حالت تداعيات جائحة كورونا دون حصولها في العام الماضي. وأشكر لكم التهاني القلبية التي نقلها باسمكم سعادة السفير البابوي للبنان وشعبه، ولي شخصيا، والتي أبادلكم إياها، متمنيا لدولكم وشعوبكم الخير والهناء والسلام والازدهار.
واسمحوا لي، سعادة السفير البابوي، أن أخص بالشكر والعرفان، قداسة البابا فرنسيس الذي يحمل لبنان في قلبه وصلواته والذي خصص وطن الأرز وشعبه في الأول من تموز الماضي، بيوم تأمل وصلاة خاصة بمشاركة رؤساء الطوائف المسيحية المشرقية، كما جدد بالأمس أمام السلك الديبلوماسي المعتمد في الكرسي الرسولي، محبته لهذا البلد وشعبه وتمنياته الصادقة كي يستعيد عافيته، داعيا المجتمع الدولي إلى المساعدة كي يبقى لبنان نموذجا للعيش المشترك بين كل أبنائه إلى أي طائفة انتموا.
أجل، أصحاب السعادة، لبنان الذي يرزح اليوم تحت أعباء اقتصادية ومالية واجتماعية وانسانية صعبة أسس لها نظام سياسي ونهج مالي واقتصادي، وزادت من حدتها أزمة تفشي كورونا وأحداث من غدر الزمان، لبنان هذا يتطلع دوما إلى أشقائه وأصدقائه في العالم ليعملوا على مساعدته كي يتجاوز الظروف القاسية التي يمر بها شعبه، وكي يبقى، كما أردناه دوما، واحة سلام وأمان ومساحة حوار، لا سيما وأنه يحمل لدولكم وشعوبكم من دون استثناء، كل الخير والمحبة والرغبة الصادقة في أن تكون علاقاته معها، علاقات تعاون بناء واحترام متبادل وتفاعل ايجابي. ولبنان بطبيعته ليس ممرا أو مقرا لما يمكن أن يسيء إلى سيادة دولكم وأمنها واستقرارها، ولا يشكل تدخلا في شؤونها الداخلية، وخصوصا الدول العربية الشقيقة التي وقفت دوما إلى جانبه لاسيما في الظروف الصعبة التي مر بها ولما يزل.
أصحاب السعادة،
إنطلاقا من هذا الحرص، الذي عبرنا عنه مرارا وفي مناسبات مختلفة، يأمل لبنان أن تكون مواقف بعض الدول مماثلة لمواقفه، بحيث لا تستعمل ساحته ميدانا لتصفية خلافاتها أو صراعاتها الإقليمية، ولا تدعم فئات أو مجموعات منه على حساب فئات أخرى، بل تتعاطى مع جميع اللبنانيين من دون تمييز أو تفرقة، بحيث تساعد على المحافظة على ما يميز أبناء هذا الوطن من خصوصية، كانت وستبقى، سر وحدتهم وتضامنهم، وأساس الاستقرار فيه، والذي، إن اهتز يوما، فإن تداعياته لن تنحصر في داخله فقط، بل ستنسحب على الخارج.
أصحاب السعادة،
لقد سارعت دولكم مشكورة إلى تقديم العون والدعم للبنان وشعبه في المحن التي أصابتهم لا سيما بعد الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت، وانعقدت من أجل ذلك مؤتمرات بمبادرة من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وأظهرت دولكم من خلال التجاوب مع طلبات المساعدة والدعم، حرصا غير مسبوق على إنقاذ لبنان واللبنانيين، فتدفقت المساعدات على أنواعها ولما تزل، ما مكننا من مواجهة النتائج المؤلمة للكارثة التي حلت بعاصمتنا.
إلا أنني أود صادقا أن ألفت عنايتكم إلى أن بعض الجهات تجاوزت واجب التنسيق مع مؤسسات الدولة اللبنانية الجامعة، وتعاطت مباشرة مع جمعيات ومجموعات بعضها نبت كالفطر بعد انفجار المرفأ، وتعمل على استثمار هذا الدعم المادي والإنساني لأهداف سياسية وتحت شعارات ملتبسة، خصوصا وأن لبنان على أبواب انتخابات نيابية، الأمر الذي يدفعني للدعوة الى ضرورة الحذر من هذه المجموعات، وحصر الدعم والمساعدة بمؤسسات الدولة، والهيئات والمنظمات الإنسانية والدولية التي أثبتت تجردها وحيادها والتزامها المواثيق الدولية التي ترعى حقوق الإنسان، ولا تمارس تمييزا أو محاباة، أو تستغل الضائقة الاقتصادية الراهنة لاعتبارات ومصالح سياسية أو خاصة.
وفي هذا الإطار أحيي الجهد الاستثنائي الذي تقوم به منظمات الأمم المتحدة في لبنان، والهيئات الإنسانية العربية والدولية التي عملت ولا تزال للمساعدة انطلاقا من مبادئها السامية القائمة على العدالة والمساواة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والسياسات المحلية.
أصحاب السعادة،
إني عازم، بالتعاون مع مجلس النواب والحكومة، وبما تبقى من ولايتي، على متابعة العمل على الرغم من كل العراقيل من أجل تحقيق الإصلاحات التي التزمت بها، والتي طالما دعت دولكم إلى تطبيقها لا سيما اعتماد خطة التعافي المالي والاقتصادي التي ستقرها الحكومة اللبنانية خلال الاسابيع القليلة المقبلة في مجلس الوزراء الذي سيعود إلى الانعقاد بعد تعطيل قسري لم يكن له ما يبرره مطلقا، وذلك تمهيدا لمناقشة هذه الخطة مع صندوق النقد الدولي لبدء مسيرة النهوض من جديد، وذلك بالتزامن مع التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان والإدارات والمؤسسات والمجالس الأخرى، لتحديد أسباب التدهور المالي الذي أصاب لبنان، ومحاسبة المرتكبين والمقصرين الذين ساهموا من خلال الفساد الذي مارسوه طوال ثلاثة عقود والهدر والسياسات الاقتصادية والنقدية الخاطئة في تحكم منظومة معروفة بمقدرات البلاد والتصرف بها بما يخدم مصالحها وممارسة سياسة استئثار بحماية داخلية وخارجية.
أصحاب السعادة،
بالتزامن مع العمل لتحقيق الإصلاحات المنشودة، سيكون لبنان في الربيع المقبل على موعد مع استحقاق دستوري وديمقراطي يتمثل بإجراء الانتخابات النيابية التي ستتم في موعدها، وذلك كي يعبر اللبنانيون بحرية وشفافية عن خياراتهم الوطنية والسياسية، وكلي أمل بأن اللبنانيين سيكونون على مستوى المسؤولية في إيصال إلى الندوة البرلمانية من سيعمل على تحقيق آمالهم وتطلعاتهم لغد أفضل وإرساء أسس نظام سياسي خال من الاستئثار ولا تتولد منه أزمات لا حلولا لها من ضمنه، من هنا دعوتي إلى اعتماد اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وقد دعوت قبل أيام إلى طاولة حوار للبحث فيها وفي الاستراتيجية الدفاعية وخطة التعافي الاقتصادي، لكن بعض القيادات السياسية لم تستجب، ما دفعني إلى التمسك بالدعوة إلى الحوار لاقتناع ثابت لدي بأنه الطريق إلى الخلاص.
أصحاب السعادة،
إن لبنان وطن محب للسلام، ولم يكن يوما معتديا بل ضحية معتدين، وخير دليل على ذلك ما جرى ويجري في جنوبه من اعتداءات اسرائيلية متواصلة برا وبحرا وجوا، ومن انتهاكات دائمة لسيادته واختراق لأجوائه لتنفيذ غارات جوية إسرائيلية على الأراضي السورية. وعلى الرغم أنه من حق لبنان الدفاع عن أرضه وسيادته بكل الوسائل المتاحة، فإنه التزم تطبيق القرارات الدولية لاسيما منها قرار مجلس الأمن الرقم 1701، وهو يتعاون من خلال جيشه مع "اليونيفيل" للمحافظة على الأمن والاستقرار في الجنوب، في وقت تواصل فيه إسرائيل تجاهل مندرجات هذا القرار. إلا أن هذا الالتزام بالقرار 1701 لا يعني الانكفاء عن المطالبة بحق لبنان في ممارسة سيادته على أرضه ومياهه واستثمار ثروته النفطية والغازية. وأجدد اليوم أمامكم استمرار رغبة لبنان في التفاوض من أجل ترسيم حدوده البحرية الجنوبية على نحو يحفظ حقوقه في المنطقة الاقتصادية الخالصة وفق ما تنص عليه القوانين والمعاهدات الدولية ذات الصلة.
إني على يقين بأن الاستقرار في الجنوب لن يتعزز إلا من خلال استقرار المنطقة، وهو أمر لن يتحقق إلا من خلال السلام العادل والشامل والدائم الذي أرست قواعده مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002، ومن خلال قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس بحيث تتحقق عودة الفلسطينيين الى أرضهم ويسقط نهائيا مخطط التوطين الذي يرفضه جميع اللبنانيين.
وبالتوازي يأمل لبنان أن يعود الأمن والاستقرار إلى الدول العربية التي شهدت حروبا نتيجة الاعتداءات الإرهابية التي حصلت على أرضها، وفي مقدمة هذه الدول، الجارة الأقرب سوريا، بحيث يعود النازحون في لبنان إلى أرضهم وممتلكاتهم، خصوصا أن لبنان ينظر بريبة إلى مواقف دولية تحول حتى الان دون هذه العودة على الرغم من توقف القتال في مناطق واسعة من سوريا، ما يطرح علامات استفهام حول أسباب عرقلتها.
أصحاب السعادة،
لقد شئت في هذا اللقاء، وهو الأخير في ولايتي الرئاسية، أن أصارحكم بالكثير من المسائل التي تشغل بال اللبنانيين، ولو شئت التوسع لما اتسع الوقت، لكني أعدكم أن لبنان النازف اليوم، قادر على تضميد جروحه واستعادة عافيته، لأن إرادة اللبنانيين، مقيمين ومنتشرين صلبة، وتعلقهم بوطنهم لا بديل عنه، لكنهم يتطلعون إلى أن تقفوا إلى جانبهم وتدعموهم فتحافظون بذلك على وطن فريد بتركيبته، مميز بقدرات شعبه، تواق إلى الحداثة والتطور، وطن لا يريد إلا الخير والمحبة لكل الدول الشقيقة والصديقة وهو واثق أنكم سوف تبادلونه بالمثل، فلا تخيبوا أمله بل ساعدوه، لأن لبنان بمجتمعه التعددي نموذج عيش يحتذى.
مرة اخرى أتمنى لكم شخصيا ولبلدانكم وشعوبكم الخير والهناء والطمأنينة، عشتم، عاشت دولكم الشقيقة والصديقة، عاش لبنان".
وفي نهاية الاحتفال، شرب الرئيس عون نخب الحاضرين ودولهم، متمنيا لهم سنة مليئة بالخير والسلام.
رصد المحور