مجلة بقية الله - الشيخ خليل رزق
على الرغم من عهده السياسيّ القصير، استطاع الإمام عليّ عليه السلام أن يعكس خلال فترة حكومته وخلافته أبهى صور الإنسانيّة، بحيث جسّد العدالة والمساواة في سياسته وإدارته لأمور الدولة، وهو الذي شاهد وعاصر كيفيّة اتّساع الانحرافات بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بلغت الأوضاع حدّاً أملى عليه أن يصف ما جرى بأنّه «بليّة»، كتلك التي كانت قبل ظهور الإسلام. وكان أوّل ما طرحه لدى تسلّمه زمام الحكومة في أوّل خطبةٍ له عزمه على إحداث التغييرات الواسعة في المجتمع الإسلاميّ، كما أوضح أصول سياسته ومنهجه ومبادئهما.
* مظاهر الفساد قبل حكمه عليه السلام
حدَّد الإمام عليّ عليه السلام الأسباب الرئيسة للانحراف عن السياسة الماليّة العادلة في الدولة، والتي تؤدّي إلى استئثار فئة حاكمة بأموال الدولة وخزينتها، وتمنع التوزيع العادل للمال على مستحقّيه. وأرجع جميع هذه الأسباب إلى أصل واحد وهو انحراف الحاكم والخليفة، وهذا ما يتّضح لنا من خلال قراءتنا لخطابات الإمام عليه السلام السياسيّة والاجتماعيّة التي وجّهها إلى عامّة الناس عندما تسلّم الخلافة، إذ يقول عليه السلام: «وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته(1)، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف(2) للدول(3) فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع(4)، ولا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة»(5).
وقد نتجت مجموعة مظاهر لهذا الفساد، منها:
1. العطاء غير العادل.
2. توزيع المال على بطانة الحاكم وأقربائه.
3. نشوء طبقتين متضادّتين: المترفين والأغنياء مقابل الفقراء والمعدمين.
4. فساد الطبقة الحاكمة.
وقد تمخّضت السياسة الحاكمة في المال والإدارة قبل تولّي أمير المؤمنين عليه السلام الحكم عن نقمةٍ شعبيّة عارمةٍ، بحيث ظهر لفئة كبيرة من الناس، أمثال المحاربين الفقراء، عمق الخديعة التي وقعوا في أسرها، ومدى الإجحاف في حقّهم، وكيف تمتّع بعض أصحاب الحكم بالثروات الطائلة والمبالغ الهائلة، بينما عاشوا هم أدنى مستويات الفقر والجوع.
وكان موقف الإمام عليه السلام من هذه السياسة واضحاً في أقواله وأفعاله، إذ استنكر هذه الأعمال وعدّها مخالفة للشريعة الإسلاميّة وعدالتها.
* الإمام عليّ عليه السلام والإصلاح الإداريّ
1. التطهير الإداريّ وعزل الولاة الفاسدين: إنّ عزل الولاة والمديرين عن مواقعهم ومناصبهم ليس بالأمر اليسير على رئيس الدولة وقائدها؛ لأنّهم ربّما سيتحوّلون إلى طرف المعارضين لحكمه، وقد فعل كثير منهم ذلك، لكنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يساوم على المبادئ، بل استمرّ بمحاربة الفساد في دولته حتّى وصل الأمر ليعترف القريب والبعيد بعدالته. لذلك، فإنّ أولى خطوات العهد العلويّ الإصلاحيّ، على الصعيد السياسيّ والإداريّ للدولة الإسلاميّة، بدأت باقتلاع رموز الفساد في الدولة، وعزل كلّ هؤلاء من مناصبهم باعتبارهم السبب الأوّل والأساسيّ لما وصلت إليه حالة الفساد.
فعزل الإمام عليّ عليه السلام الكثير من العمّال السابقين المسؤولين عن ولايات الدولة الإسلاميّة عن البلدان، والذين كانوا رأس الهرم في السلطة ويتّبعون الخليفة مباشرة، خلا أبي موسى الأشعريّ. وكان الكثيرون ممّن أظهروا العداء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وصلوا إلى مقام تسلّم الأمور الإداريّة في الحكم من أمثال: الحارث بن الحكم، وعمر بن سفيان، والحكم بن العاص، وولده مروان، والوليد بن عتبة.
2. محاسبة من ثبتت خيانته: استكمالاً لخطوته الإصلاحيّة الأولى، قام الإمام عليّ عليه السلام بمحاسبة كلّ من ثبتت خيانته من العمّال، وعدم قيامه بتنفيذ الوصايا والمبادئ التي تقوم على أساسها حكومته عليه السلام. وهذا الإجراء كان يقوم به وفقاً للتقارير التي كانت ترِد إليه من جهازه الرقابيّ والتفتيشيّ الذي وضعه لمراقبة سير أعمال الولاة. وقد ذكر كتاب دعائم الإسلام: «إنّ عليّاً عليه السلام أحضر الأشعث بن قيس، وكان عثمان استعمله على أذربيجان، فأصاب مئة ألف درهم، فبعض يقول: أقطعه عثمان إيّاها، وبعض يقول: أصابها الأشعث في عمله. فأمره عليّ عليه السلام بإحضارها فدافعه،... فقال: والله، لئن أنت لم تحضرها [إلى] بيت مال المسلمين، لأضربنّك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب.
فأحضرها وأخذها منه وصيّرها في بيت مال المسلمين، وتتبّع عمّال عثمان، فأخذ منهم كلّ ما أصابه قائماً في أيديهم، وضمّنهم ما أتلفوا»(6).
3. عدم تولية الخائن والعاجز: لم يوافق الإمام عليّ عليه السلام على تعيين الكثير من الأشخاص في حكومته، على الرغم من أنّ وجودهم يكفيه مؤونة القتال والحرب في بعض الأحيان، ذلك لأنّهم أصحاب طمع ولهم سابقة في خيانة الأمّة، فضلاً عن أنّهم لا يتمتّعون بالكفاءة الإداريّة المطلوبة. وقد شهد بداية عهده الذي بدأه بعزل الولاة السابقين إصراراً من بعض أصحابه على تولية أفرادٍ من هذا القبيل، فكان جوابه عليه السلام الدائم هو الرفض وعدم القبول: «إنّ المغيرة بن شعبة كان قد أشار عليَّ أن أستعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني أتّخذ المضلّين عضداً(7)»(8).
4. معاقبة الخَوَنة من العمّال: كان منهج الإمام عليّ عليه السلام يقوم على إنزال العقاب الشديد بمن يرتكب الخيانة والجريمة؛ وقد أمر عليه السلام بإنزال العقوبة بالموظّف الذي يُسيء استخدام سلطته.
لمّا استدرك الإمام عليه السلام على ابن هَرْمة خيانةً، وكان على سوق الأهواز، فكتب إلى رِفاعة: «إذا قرأت كتابي فنحِّ ابن هرمة عن السوق، وأوقفْه للناس، واسجنْه ونادِ عليه، واكتب إلى أهل عملك تُعْلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط، فتهلك عند الله (...) واكتب إليَّ بما فعلت في السوق، ومن اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه»(9). ورغم تشدّده عليه السلام في عقوبة الخائن، إلّا أنّ عدله ورأفته اقتضيا منه الوصيّة لعمّاله بضرورة وضع الأمور في نصابها، وعدم الاستعجال أو التباطؤ، وبضبط النفس في استخدام القوّة والإكراه، والتروّي في إنزال العقوبة عند الغضب.
5. إسباغ الأرزاق على العمّال ومكافأتهم: عندما يكتفي الموظّف بما تقدّمه له الإدارة، لن تدفعه الحاجة إلى الخيانة والرشوة أو غيرهما. ولهذا، نرى الإمام عليّاً عليه السلام يوصي مالكاً الأشتر بدفع الرواتب والمخصّصات للموظّفين، بل بإسباغ الرزق عليهم لما فيه من تقوية جانب الصلاح في نفوسهم، فيقول عليه السلام: «ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةً لَهُمْ عَلىَ اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ»(10).
6. الرقابة المباشرة: من الوظائف والمهام التي جعلها الإمام عليه السلام للحاكم الإشراف المباشر والمستمرّ على أعمال الولاة، ومراقبته عن كثب لسير أعمالهم وقيامهم بوظائفهم، فيما يقوم هو عليه السلام بالتقصّي والتحرّي عن كيفيّة قيامهم بوظائفهم، وأسلوب معاملتهم للرعيّة، وكيفيّة إدارتهم شؤون الناس. واستحدث الإمام عليه السلام نوعين من أجهزة الرقابة: الأوّل: العيون والرقباء، وهو جهاز الرقابة السرّيّ، وكان يتولّاه بنفسه، والثاني: التفتيش الإداريّ، وهو جهاز الرقابة العلنيّ، بحيث يقوم بتكليف بعض الأشخاص بالتفتيش الإداريّ على مناطق وولايات معيّنة، كما حصل عند تكليفه لكعب بن مالك بجولة في أرض السواد، وذلك في كتاب جاء فيه: «أمّا بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتّى تمرّ بأرض كورة السواد(11)، فتسأل عن عمّالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعُذيب(12)، ثمّ ارجع إلى البِهقُباذات(13) فتولّ معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولّاك منها»(14).
7. التوصيات والتوجيهات المستمرّة لولاته: رغم استعانة الإمام عليه السلام بجهاز من الولاة والموظّفين لإدارة شؤون الدولة والأمّة، فقد كان المحيطون به خُلَّص أصحابه، ويعدّون نماذج راقية ومتكاملة في مستواهم الروحيّ والفكريّ، وكانوا قمّة في الالتزام، وأيضاً في القدرات الإداريّة والقياديّة، مثل: عثمان بن حنيف، ومالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر وسواهم. وعلى الرغم من أنّ الإمام عليه السلام قد زوّدهم بخطط هادية ومناهج راشدة يهتدون بها في حياتهم العمليّة وفي علاقاتهم مع مختلف قطاعات الأمّة التي يباشرون قيادتها؛ إلّا أنّه ما انفكّ يتعهّدهم بالوصيّة تلو الأخرى لضمان استمرار حسن أدائهم الإداريّ ودقّته، لذا، تجد الكثير من النصوص التي يوجّه فيها الإمام عليه السلام والياً أو جابياً للمال إلى الطريقة المثلى في عمله المنوط به.
8. شروط تعيين الموظّفين: لقد سعى الإمام عليه السلام إلى تعيين الولاة الذين تتوفّر فيهم شروط الصلاح والعدالة والتقوى؛ ففرض على المديرين الالتزام بمعايير الكفاءة والخبرة، وأن لا يوظّفوا الأشخاص على أساس المحسوبيّة والقرابة. وممّا أوصى به في هذا المجال واليه على مصر مالك الأشتر: «ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنّهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً، وأقلّ في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً»(15).
9. تقسيم الأعمال وحسن التفويض: في رسالة كتبها الإمام عليه السلام إلى ولده الحسين عليه السلام أودع فيها مجموعة من الوصايا القيّمة، وأشار إلى توزيع المسؤوليّات، فقال عليه السلام: «وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَان مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأخْذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أحْرَى أَلّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ. وَأَكْرِمْ عَشِيرتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتي بِهَا تَصُول»(16).
وهكذا حاول عليه السلام أن يقوّم اعوجاج السياسة الحاكمة التي انحرفت عن أسس العدالة الاجتماعيّة والإداريّة، وقدّم تجربةً ناصعةً في الإصلاح، والعدالة في سنين قليلة.
(1) النّهْمة: بفتح النون وسكون الهاء: إفراط الشهوة والمبالغة في الحرص.
(2) الحائف: من الحَيْف، أي الظلم والجَوْر.
(3) الدُوَل: جمع دُولة بالضمّ: وهي المال؛ لأنّه يُتَدَاول أي يُنقل من يد ليد. والمراد من يحيف في تقسيم الأموال فيفضّل قوماً في العطاء على قومٍ بلا موجب للتفضيل.
(4) المقَاطع: الحدود التي عيّنها الله لها.
(5) نهج البلاغة، ج 2، ص 14.
(6) دعائم الإسلام، المغربي، ج 1، ص 396.
(7) إشارة إلى الآية 51 من سورة الكهف: ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾
(8) وقعة صفين، المنقري، ص 63.
(9) دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج 2، ص 532.
(10) نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 96.
(11) السّواد: أراضي العراق وقراها التي افتتحها المسلمون.
(12) العُذيب: ماء لبني تميم، وهو أوّل ما يلقاه الإنسان بالبادية إذا سار من قادسيّة الكوفة يريد مكّة.
(13) بِهْقُباذ: اسم لثلاث كُور ببغداد من أعمال سقي الفرات.
(14) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي، ج 5، ص 26.
(15) نهج البلاغة، مصدر سابق، ج 3، ص 95.
(16) المصدر نفسه، ج 3، ص 57.
مجلة بقية الله