ما الذي تفعله السعودية في لبنان؟
الاخبار - ابراهيم الأمين_الخميس 21 آب 2025
فلنعدْ عشرين عاماً إلى الوراء، يوم قادت الولايات المتحدة معركة الشرق الأوسط الجديد، وأطلقت مع فرنسا معركة إخراج سوريا من لبنان، قبل وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. حينها، حصل تبدّل نوعي في موقف المرجعية العربية الثانية لاتفاق الطائف. عندما غادرت السعودية للمرة الأولى، موقعها الوسطي – المعلن - حيال ما يجري في لبنان. وخلال عام واحد، انخرط آل سعود في أكبر معركة ضدّ قسم من اللبنانيين.
وكان الهدف ليس رأس رجالات الحكم الموالين لسوريا فقط، بل نسف قاعدة لتيار لا يسير بالبلاد وفق البرنامج الجديد، وأساسه، حزب الله كقوة مقاومة من جهة، والتيار الوطني الحر كقوة سياسية، الأكثر تمثيلاً عند المسيحيين، ومعهما فريق من اللبنانيين.
حينها، شهد لبنان حملات قادها سياسيون عاملون في خدمة تحالف واشنطن – باريس – الرياض، بالتعاون مع شبكة إعلامية واسعة، محلياً وعربياً ودولياً. وعندما شنّ العدو حربه في تموز عام 2006، كان السعوديون أول من وفّر له الغطاء السياسي الإقليمي والعربي والإسلامي، وأطلقت الرياض هجوماً على المقاومة في لبنان، بالتزامن مع القصف الإسرائيلي.
وكعادتهم، يلجأ آل سعود إلى إغراق طبقة من السياسيين والإعلاميين بالرشوة المالية، وتجنيد أكبر حملة شيطنة إعلامية ضد المقاومة، والتحريض بكل الأشكال، بما في ذلك استخدام طبقة مُعتبرة من رجال الدين السنّة، علماً أن السعودية كانت تعرف أنه يوجد في لبنان قوى طائفية، ورجال سياسة بينهم من هو أكثر عداء للمقاومة وسوريا من السعودية نفسها.
وركّزت السعودية أيضاً، ليس على حلفائها بين السنّة والدروز، بل أطلقت بالتعاون مع الأميركيين برنامج «شيعة السفارة»، فيما عملت بقوة استثنائية في الشارع المسيحي، لكسر التمثيل الواسع الذي حقّقه التيار الوطني الحر في الانتخابات النيابية، وبينما كانت «القوات اللبنانية» في مرحلة إعادة تنظيم أمورها بعد خروج سمير جعجع من السجن. كانت الكتلة المسيحية الأكثر ضجيجاً، تلك التي عُرفت بفريق 14 آذار.
يعتبر ابن سلمان أن فرصته قائمة في «الزمن الإسرائيلي»، ويرى في سوريا - الشرع، مركز القوة الذي يمكن استخدامه في لبنان مرة جديدة
برغم معاناتها الدائمة من الضائقة الشعبية، فإنّ الحملة ركّزت، على إقناع الرأي العام، بأن المقاومة هي أصل البلاء، وأن تحالفها مع التيار الوطني يشكّل الغطاء المحلي لهذا البلاء، بينما تتولى سوريا الحماية إقليمياً. وروّج آل سعود لنظرية أن خلاص لبنان يكون من خلال ترك المقاومة، وفكّ التحالف مع سوريا. وحشدت السعودية لأجل هذه المهمة كل الدعم السياسي والإعلامي والمالي. حتى إنها عملت مع الأميركيين على بناء قاعدة أمنية وعسكرية، تركّزت بداية في قوى الأمن الداخلي، ثم جرت محاولات سحبها على الجيش اللبناني، حيث كان المناخ أكثر صعوبة.
ولم تترك السعودية، حيلة قذرة إلا ولجأت إليها، فاستخدمت التحقيق في اغتيال الحريري، منصة لتوجيه الاتهامات وتعبئة الجمهور، قبل الانتقال إلى مستوى الضغط المباشر في الشارع. والمشكلة أن القوى اللبنانية الموالية لهذا التحالف، لم تكن تعي مخاطر السير بهذا المشروع، حيث تعزّز الانقسام الداخلي وصولاً إلى قرارات حكومة فؤاد السنيورة في 5 أيار عام 2008، ضد المقاومة، ما أدّى إلى أحداث 7 أيار قبل الذهاب إلى اتفاق الدوحة.
الخيبة التي أصابت السعوديين يومها، دفعتهم إلى التصرف على أساس أن حلفاءَهم المحليين، ليسوا على القدر المطلوب من القوة والقدرة على الفعل. وبعد ما حصل، تراجع السعوديون خطوات إلى الخلف. وأطلقوا موجة مراجعة شملت سوريا ولبنان، كان سعد الحريري أول الضحايا، عندما أجبره آل سعود على الذهاب إلى دمشق، لكنها تجربة جعلت الحريري الابن يتعرّف أكثر إلى البلاد، وهو من تاريخه، ابتعد عن كل الخيارات الشاملة، حتى عندما اندلعت الأزمة السورية، فهو انخرط داعماً لمعارضي الأسد، لكنه ظل حريصاً على تجنّب المواجهة مع حزب الله.
في فترة لاحقة، شعر الحريري بأنه معنيّ بتحقيق تقدّم أكبر في العلاقة مع حزب الله وحتى مع التيار الوطني الحر. وهو بدأ مساره بالابتعاد عن مناخات التوتر الكبيرة، وساعدته في ذلك التحولات التي طرأت على مواقف حليفه الأول وليد جنبلاط، إضافة إلى التبدلات في المشهد الإقليمي.
لكنّ الحريري عاد ليوضع أمام اختبار جديد، مع تولي «أمير المنشار» محمد بن سلمان مقاليد الحكم في السعودية، وهو الذي كشف لاحقاً أنه لا يكنّ لا الودّ ولا الاحترام ولا التقدير لكل عائلة الحريري، وليس لسعد وحده. وقد بادر إلى الطلب منه، أن ينخرط في مشروع توتير في لبنان، بهدف الضغط على حزب الله رداً على دعم الأخير لحركة «أنصار الله» في اليمن، وصولاً إلى طلب ابن سلمان المباشر من الحريري، قيادة تحرك سياسي وشعبي ضد حزب الله، ولو كانت كلفة ذلك مواجهات في الشارع.
لكنّ الحريري، كان يواجه حينها مشكلة أخرى مع ابن سلمان، تتعلق باعتباره واحداً من «الذين أساؤوا الأمانة وأخذوا مالاً بغير حق في المملكة» على ما قاله ابن سلمان نفسه لمراجعين له، يوم خطف الحريري وسجنه في الرياض. ومع أن الحريري، كان يعرف أن بمقدوره النجاة، إن هو قدّم الخدمة المطلوبة منه في لبنان.
لكنّه التزم خياره بعدم التورط في حرب أهلية، خصوصاً عندما اكتشف حجم التآمر عليه من قبل «حلفاء الضرورة» كما قال لاحقاً، في إشارة إلى ما فعلته «القوات اللبنانية» وشخصيات من 14 آذار ضده في السعودية.
لكنّ النتيجة كانت، في أن الحريري رفض العرض وفضّل الابتعاد عن المشهد، وهو عارف بالثمن الكبير الذي يدفعه وسيدفعه جراء «عصيان أوامر أمير المنشار».
يكرّر آل سعود بإصرار، كل أخطاء تجربتَيْ 2005 و2017، مستندين إلى نفس الأدوات الداخلية، مع فوقية فظّة وضغط أكبر وإنفاق أقلّ
اليوم، تعود السعودية من جديد إلى الدور نفسه. لكنها تقدّم لنا نماذج جديدة عن مدراء الخطة الجديدة، مثل نزار العلولا ثم يزيد بن فرحان، لكي تقول للبنانيين، بأنها لا تنظر إليهم بأكثر من «أجراء يعملون في خدمتها».
والغريب في الأمر، أن السعودية التي أنفقت نحو 17 مليار دولار بين عامي 2005 و2017، على ما كان يردّد ابن سلمان، ليست الآن في وارد إنفاق أكثر من بضعة ملايين من الدولارات على مجموعة من السياسيين والإعلاميين، مع وعد بمبلغ إضافي لدعم حلفائها في الانتخابات النيابية المقبلة. وحجة السعوديين هنا، لا تتعلق بنقص في الأموال، بل إنهم لا يعتقدون بأنهم في حالة اضطرار إلى إنفاق مثل هذه المبالغ، لأن الرياض باتت تملك ورقة أقوى لإخضاع اللبنانيين، تتمثّل في الإدارة الجديدة لسوريا.
المحزن في حالة حكم كالموجود في السعودية، أنه فقير العقل، وناقص للحيلة، وفاقد حتى للخيال. حيث لم تعدّل السعودية حرفاً في خطتها السابقة. فهي عادت لتقود حملة ضد المقاومة تحت شعار أنها أصل البلاء في لبنان، وعادت لتستخدم نفس القوى التي فشلت مراراً في تحقيق مُرادها، من زعامات طائفية أو سياسية، وكلها من بقايا 14 آذار، وتلجأ إلى نفس الوسائل الإعلامية والسياسية وطرق الرشوة، وتسعى لجرّ رجال الدين إلى فتنة داخلية دون حياء أو تردّد، وتعتمد أكثر على نفوذ أميركا وإسرائيل، لكنها تتصرف على أن ما حصل بعد الحرب الأخيرة على لبنان، وسقوط نظام الأسد في سوريا، أنها باتت العنصر الأقوى في المعادلة، علماً أنها لا تحب أي مراجعة:
أولاً: في المواجهة السابقة، كان رئيس الجمهورية ميشال سليمان وحكومات سعد الحريري في صف السعودية، كما كانت قوى اليمين المسيحي في جيبها الصغير.
ثانياً: لم يخرج في حينه طرف لبناني ليشنّ حرباً على السعودية، حتى حزب الله اكتفى بخطابات ومواقف قادته، دون الانجرار إلى الفتنة المذهبية.
ثالثاً: كانت غالبية درزية وسنية وكتلة مسيحية وازنة تقف إلى جانب السعودية، إضافة إلى غالبية وسائل الإعلام والإعلاميين ورجال المال والأعمال.
رابعاً: كانت سوريا في حالة ضعف وتراجع بدأت بإخراجها من لبنان، ثم انشغالها في حروبها الداخلية.
واليوم، تعود السعودية لتتّكل على نفس القوى مع فارق، أن وليد جنبلاط نفسه، والذي يتمنى أن يعترف به ابن سلمان، ليس في وارد الدخول طرفاً في مواجهة داخلية، فيما تواجه قوى اليمين المسيحية مشكلة الهدف وليس العناوين فقط، وبرغم ما أصاب التيار الوطني الحر من من ضعف، إلا أن «مملكة الخير» لا تزال تتعامل معه على خلفية عدائية.
وفي حالة السنّة، الذين رحّبوا بتغيير النظام في سوريا، إلا أنهم لم يفتحوا الأبواب واسعة أمام المدّ الوهابي، ولا تزال قاعدتهم الاجتماعية الأكبر تعتبر أن قائدها هو سعد الحريري، وتعرف أنه مُعاقب من «أمير المنشار»، وها هم السياسيون، من نواب وقيادات، يتحدّثون عن فظاظة ابن فرحان ويتذكّرون معه أيام غازي كنعان في لبنان، حتى الغربيون، الذين يعتقدون اليوم، بأن لبنان أقرب إليهم من أي وقت سابق، يتصرفون بحذر شديد، خشية أن يخرج من يقلب الطاولة على الجميع... ومع ذلك، فإن آل سعود يسيرون على نفس الخطى إلى حيث سيفشلون.
لكن، يبدو أن ما يشجّع السعوديين على سلوكهم العدائي، ليس رغبتهم في اقتناص «فرصة العمر»، بل شعورهم بأنهم في وضع لا يمكن لأحد معاقبتهم فيه على ما يرتكبون من فظاعات، معلنين أنهم يعيشون العصر الإسرائيلي.
ومع ذلك، فلننتظر ولْنرَ!
صحيفة الاخبار