تحاول السعودية، بعد ضربتَي «أرامكو» ونجران شراء الوقت، بما يذكّر بأجواء اتفاق السويد وهدنة الحديدة في أعقاب مقتل الصحافي جمال خاشقجي. هذا ما يؤكّده مصدر متابع للاتصالات الجارية حول الهدنة في اليمن. هدنةٌ هي عبارة عن «بضاعة غير قابلة للتسويق»، بحسب حركة «أنصار الله»، التي تشدد على أنه إما وقف العمليات ورفع الحصار، أو سوف تكون مضطرة إلى اتخاذ قرارات بقصد إلزام الطرف الآخر بالذهاب نحو حلّ شامل.
«الكلام كثير، لكن الفعل المباشر لا يزال غائباً». بهذه العبارة يلخّص مصدر مطّلع على الاتصالات في شأن اليمن ما جرى حتى الآن، قائلاً إن ثمة «تبادل مبادرات»، لا أكثر من ذلك. ويوضح أن «التغيير الفعلي محصور في كون الولايات المتحدة والسعودية قررتا التحدث مباشرة مع الحوثيين وليس عبر وسيط»، معتبراً أن «الضحية الأولى لهذه الوساطات هو فريق الشرعية التابع لعبد ربه منصور هادي أو جماعة الإمارات». ويلفت المصدر إلى أن التحوّل سببه الضغط العالمي الذي نشأ بعد ضربة «أرامكو»، ثم الكشف عن عملية «نصر من الله»، حيث لمس الغربيون حجم الإرباك لدى السعودية من جهة، ولدى المجموعات المقاتلة معها من جهة ثانية، إضافة إلى وجود حراك سعودي داخلي، ليس كبيراً أو نوعياً، لكن الأوساط الغربية استفادت منه وظهّرته عبر وسائل الإعلام العالمية من أجل استخدامه كورقة ضغط في وجه وليّ العهد محمد بن سلمان.
وحول ما قام به الموفد الأممي إلى اليمن، مارتن غريفيث، يبيّن المصدر أنه جاء حاملاً «أجواء سعودية وأميركية إيجابية تجاه فكرة التهدئة. وهو تحدث عن آليات مفترض اتباعها لتنظيم عملية وقف إطلاق النار. وحمل مقترحات جزئية بشأن الحصار على المطار والمرافئ البحرية، متحدثاً عن إمكانية السماح لبعض ناقلات النفط بإفراغ شحنات في الحديدة، والسماح بتوجه عدة رحلات من مطار صنعاء حصراً إلى مطار القاهرة، على أن تنقل المرضى والجرحى فقط». وبحسب المبادرات الأممية، يفترض بالأمم المتحدة ضمان التزام الطرفين بالتفاهم الذي لا يمكن تركه مفتوحاً إلى ما لا نهاية، على قاعدة أن يتوقف العدوان عن شنّ غارات على المدنيين في كل المناطق، ويفرج عن السفن المُحمّلة بالنفط والمواد الغذائية المحتجزة قبالة الحديدة، مقابل أن تستمر «أنصار الله» في التوقف عن قصف العمق السعودي بالصواريخ والطائرات المسيّرة، وعدم التعرض لسفن دول العدوان في جميع الممرات البحرية.
من جانب «أنصار الله»، تبدو الصورة مختلفة قليلاً، إذ إن السعي إلى تقليص الضغوط الإنسانية على سكان المناطق اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحركة لا يدفعها إلى القبول بأي شروط مقابلة، خصوصاً أن طبيعة المواجهة في الميدان ومستوى الضغط السياسي لا يتيحان لقوى العدوان فرض الشروط. ولذلك، عادت «أنصار الله» وأبلغت غالبية الوسطاء، من الموفد الأممي إلى الموفدين البريطانيين والعراقيين والعمانيين، أنها ليست في وارد عقد هدنة مجتزأة أو مؤقتة، وأنها تقبل بمبادرات ذات طابع إنساني مثل تبادل الأسرى والمعتقلين لدى الطرفين، أو تسهيل مرور المساعدات الإنسانية مقابل وقف قصف بعض المرافق الحساسة داخل السعودية، وأن العرض الوحيد الذي تقبل به صنعاء لالتزام الهدوء والبدء بحوار سياسي هو وقف كامل للعمليات العسكرية من جانب قوى العدوان، ورفع كامل للحصار المفروض على المعابر البرية والبحرية والجوية، ولا سيما مطار صنعاء ومرفأ الحديدة، وهو ما لم يجزم الموفد الدولي بإمكانية تحقيقه الآن.
لكن «أنصار الله»، كما حلفاؤها في طهران وبيروت، يظهرون خشية كبيرة من كون العالم يقوم اليوم بمناورة كبيرة، ليس هدفها سوى امتصاص النقمة العالمية والداخلية ضد سياسات محمد بن سلمان، بينما يجري العمل بالتعاون بين القوى العسكرية والأمنية، السعودية والإماراتية والأميركية والإسرائيلية، على مشروع إنتاج سريع لأسلحة دقيقة قادرة على مواجهة خطر الطائرات المسيّرة، وإنتاج رادارات تتيح الكشف عن حركة هذا النوع من الأسلحة قبل وصولها إلى الهدف. وبينما يردّد حلفاء السعودية أن ابن سلمان يحتاج إلى جائزة، ولو في الشكل، تتيح له وقف الحرب مع إنجاز ما، فإن حركة «أنصار الله» (ومن خلفها إيران) ترفض بصورة مطلقة منح ابن سلمان أي جائزة على جرائمه، بل هي تحذر من أنه في حال فوّت الفرصة الآن، فسوف يواجه مشكلات أكبر في وقت قريب، وأن المعارك سوف تنتقل هذه المرة إلى داخل العمق السعودي، وعندها لن تنفع كل محاولات التوسّط، وسوف يكون أمام الاختبار الأخير لشعار الحماية التي يتحدث عن توفيرها له من قِبَل واشنطن وعواصم غربية أخرى.
وفي هذا الإطار، يلفت المصدر إلى أنه تبيّن بشكل واضح خلال الأسبوعين الماضيين أن ابن سلمان «يريد التخفّف من المناخات السلبية التي قامت بعد ضربة أرامكو وضربة نجران، وأنه يبحث عن حلّ مجتزأ، لكن يتيح له العودة إلى الحرب متى يناسبه الأمر». ويذكّر المصدر بما فعله ابن سلمان في الحديدة سابقاً، عندما أراد تجاوز الفشل الميداني والمناخات التي رافقت اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، قائلاً: «يومها قَبِل السعودي بمفاوضات السويد، وبإعلان وقف محدود لإطلاق النار، لكن لم يوقف الحرب، بل عاد إلى التصعيد في وقت لاحق. وهو الآن يبحث عن اتفاق مماثل ولو كان أكبر من اتفاق الحديدة، لكنه يشتري الوقت لا أكثر». ويعرب المصدر عن اعتقاده بأنه «لا مجال أمام السعودية حالياً إلا الدخول في مفاوضات، إلا أنها تفعل ذلك بهدف تجميد الجبهات لكن مع استمرار الحصار والخنق»، مشيراً إلى أن «الحصار النفطي يشتدّ أكثر فأكثر»، مستدركاً بأن «استمرار هذا الوضع لن يكون أمراً محسوماً، لأن أنصار الله، ومع معرفتها بحساسية الموقف وطبيعة الضغوط القائمة، سوف تكون مضطرة إلى اتخاذ قرارات جريئة ونوعية بقصد إلزام الطرف الآخر بالذهاب نحو حلّ شامل. وإن الجانب البريطاني يعرف هذه النقطة جيداً، وهو الذي يعرب عن مخاوفه من انفلاش الأمور وخروجها عن السيطرة».
أما في شأن الموقف الإماراتي، يذكر المصدر أن أبو ظبي تحاول بصورة متواصلة إقناع إيران بأنها لم تعد في الموقع نفسه. وهي تحاول القيام بخطوات تجاه سوريا، بقصد إظهار استعدادها لمبادرات «حسن نية تجاه محور المقاومة»، واصفاً ذلك بأنه «بضاعة غير قابلة للتسويق»، مؤكداً أنه «لم يحصل أي تفاهم إيراني ــ إماراتي في شأن اليمن»، وأن «طهران تكرّر دعوة الإمارات إلى التحاور مباشرة مع أنصار الله وإلى الإسراع في خطوات عملية على الأرض تظهر صدق نياتها بالخروج من الحرب». غير أن الوقائع على الأرض تقول عكس تلك النيات، إذ تكشف معلومات «أنصار الله» عن استمرار الإمارات في نقل المقاتلين والعتاد عبر البحر بقصد تعزيز جبهتَي الحديدة وتعز، وأنها تعمل على إيجاد علاج لأزمة الجنوب، المقبلة على تصعيد، مع إعلان السعودية وقف صرف مرتبات الموظفين الذين كانوا يعملون تحت سلطة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي. وشرح المصدر القلق الإماراتي بأنه ذو وجهين: «الأول، يتعلق بالخشية من ضربة على طريقة أرامكو. والثاني، من توصل السعودية إلى اتفاق مع أنصار الله من دون المرور بها». وعليه، لا يستبعد أن يلجأ الإماراتيون إلى تفجير الموقف العسكري في الحديدة وتعز بقصد جرّ الآخرين إلى إشراكهم في المفاوضات وفي التسوية.
صحيفة الاخبار