*مصطفى قطبي
يمر تاريخنا الوطني والعربي في مرحلة اختبار عسير يتساءل المواطن خلالها بقلق عن البدائل الراهنة المفروضة والمرفوضة مع حالة الانزياح والانحراف التي تئن تحت وطأتها الشعوب العربية. هذه الشعوب وعلى امتداد ساحات الوطن العربي تستنكر وتستغرب الحاضر العربي وهي ترى تحالف الإرهاب والرجعية والاستعمار ضد المصير والعيش المشترك، والتاريخ والمستقبل العربي.
أما العدو فيراهن على سرعة قبولنا كعرب ومسلمين على غرائزنا، وعلى عصبياتنا، وعلى هشاشة منطق التدقيق والتفكير في حياتنا، فنحن أكثر شعوب العالم سرعة في قبول المعلومة المصنّعة دون أن ندقق أو نحاول معرفتها إن كانت صادقة، أو كاذبة. نحن اليوم، في مواجهة حرب نفسية، وفي مواجهة جيوش ''الطابور الخامس'' و وسائل إعلامية تسوّق المعلومة بخبث لم يستطع الشيطان نفسه، الذي تكفل بتضليل عباد الله الوصول إلى هذا النمط من الكذب والدجل، والتسويق.
إن محاولة قراءة الواقع العربي والإسلامي، بكل تعقيداته وتشابكاته وعناصره المتعددة، ليس بالأمر الهين واليسير، على أعظم المفكرين والمثقفين والسياسيين والمؤرخين، لأن هناك حركات سرية لما يجري، تشبه حركة الطبقات الجيولوجية تحت الأرض، ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة... أكاد ألمسها بيدي، أكاد أراها بعيني... إنها تومض قليلاً، ثم سرعان ما تختفي... ووحدها فلسفة التاريخ يمكنها أن تقدم بعض الأدوات لقراءتها أو الكشف عنها. فما حدث ويحدث، يعني بما لا يقبل الشك أن التاريخ العربي قد انتكس وعاد إلى الوراء... عاد إلى عصور الجاهلية، المتزمتة، المتحجرة، وإن حركة التاريخ أكدت أن مشروع العرب الحضاري قد انتهى، فكرياً، وقومياً، وقد دخلنا بكل أسف مرحلة العصبيات والقصور العقلي والطفولة السياسية...
وإذا كان قد أدخل في أذهان البعض أن يسخر من نظرية المؤامرة، فإن المؤامرة لم تعد نظرية، بل لم يعد الأعداء بحاجة حتى إلى تجميل خططهم أو إلباس تنفيذها لباساً تغرّ أو تضلل الناظرين، وذلك نتيجة ضعف الضحية إلى درجة لم يعد من الضروري، بالنسبة لهم، حتى إضاعة الوقت على إخراج المخططات طالما أن الضحايا هم في حالة من اليأس والقنوط والعجز. لا بل، إن هذا العجز يدفع بعض العرب إلى الاحتفاء علناً بمخططات أعدائهم الذي يستهدفهم ذاتهم في النهاية، ولو بعد حين، وهو يبدو الآن وكأنه يستهدف إخوانهم فقط.
فما هي المشكلة؟ لماذا تحيق بنا كل هذه المخاطر والفِتن والعنف والانقسام والانفصال؟ ما هو العمل كي نصنع لأولادنا مستقبلاً مختلفاً عما يشهدونه اليوم؟ كيف نحميهم من أعداء متغطرسين مدججين بالكراهية لنا كلنا من المحيط إلى الخليج؟
انحسار الحياة الفكرية الحرة وتدهور التعليم يعني تراجع دور المثقفين، وبالتالي تقلص الرؤى أمام السياسيين، في الوقت الذي تتسارع وتيرة الابتكارات والإنجازات والتقدم العلمي والتقنيّ لدى من يستهدفنا. فالغرب بسّطوا الحلال فأصبح الحرام صعباً، أما العرب فقد صعبوا الحلال فغدا الحرام سهلاً، آمنوا بأنهم خير أمة أخرجت للناس، من باب كنتم، وغدوا الآن: أمة أحرجت الناس، والناس هنا تعني الأمم والمجتمعات والشعوب كافة. لذلك تجد العرب يعيشون بين أمرين، الأول: قرارهم مسلوب منهم، والثاني مفروض عليهم، بحكم وجودهم في حيرة من أمرهم، فأين هم بين هذا وذاك، وبين ذاك وهذا؟ أين أولئك العاملون على صناعة النقطة بدلاً من حذفها ووضعها في مكانها المناسب، كيما يمتلك العرب قرارهم فيصير لوجودهم مغزى ومعنى وقرار، أين رسالة الحياة التي تم إيداعها بيد العرب؟ أين التأهيل من أجل إدراك تلك الرسالة والحفاظ عليها ما يؤدي لبقاء معنى لتلك الكلمة التي تنضوي تحتها ''عرب''؟ وهل هي تحتاج إلى نقطة، أم إنها كاملة في أسباب وجودهم تحت سقف وجودها...؟!
إن كلّ المعارك التي يخوضها العالم اليوم هي بالأساس معارك تعتمد على الفكر، سواء كان الحديث عن التقدم التقني والتكنولوجي، أو عن الصناعات الحربية، أو أي صناعات أخرى تخدم الإنسان، فإن الأصل هو ''الفكرة''، والأصل في كل منتج مهما كان نوعه وهدفه هو ''الفكرة''، ويقاس تقدّم الأمم اليوم بقدرتها على الإبداع، وبعدد الأبحاث التي تنتجها، وبعدد المبتكرات التي سُجلت باسمها، وبعدد الاختراعات التي قدمتها للإنسانية في مختلف المجالات.
إن عاملا مهما يلعب دوره في ''معادلة الهزيمة والنصر'' ألا وهو ''إدراك متغيرات العدو''، ثغراته، نقاط قوته، اقتصاده، الصراعات في داخله، برامج أحزابه، استراتيجيته وتكتيكات سياسته، حدوده القصوى للحل، وغيرها من المفاصل المهمة التي تتبع التخصص. فإسرائيل تحتل المرتبة 17 من جهة البحوث المنشورة في العلوم البحتة والدراسات التطبيقيّة، فضلاً عن وجود 6 من جامعاتها في تصنيف أفضل 100 جامعة في العالم. هذه الحقائق والأرقام تدعونا للبحث والتساؤل، عن عوامل نجاح هذه المنظومة، ولعل أهمها تلك الميزانيات الضخمة التي ترصد للبحث. فميزانية التعليم في إسرائيل مثلا تعادلُ ميزانيات دول عديدة من الدول النامية. ناهيك عن أنها ترصد 8.2 في المائة من إنتاجها القومي للبحث، في حين أن معدل الدّول المتقدمة هو 6.2 في المائة.
ومهما يكن من أمر ومهما كان نقص الكفاءة واضحاً في العالم العربي، لدى ذوي الشأن ومهما كانت مقولة وجود فاسدين ومخربين صحيحة فإن الذي لا شك فيه هو أن هؤلاء ليسوا المسؤولين الوحيدين عن الخطأ والخطر ولكنّ النسبة العالية من الجبناء والمتحلّلة من المسؤولية هي المسؤولة الأكبر عن انعدام البيئة السليمة والمحفزة للإنتاج والإبداع، وعن انعدام التقدّم في مجتمعاتنا.
إذ هل يعقل ألا تكون جامعة عربية واحدة ضمن أول مائة جامعة في العالم...!؟.
ماذا بنينا في الفكر وفي المعرفة، لماذا لا نحقق معرفتنا الخاصة ونبني نهجنا العلمي الخاص ولا نظل ذيلاً للغرب... هو يقول ونحن نردد... هو يفعل ونحن نستهلك؟ هو السيد وعلينا أن نطيع... متى نتمرد على هذا الغرب وعلى فكره... طبعاً طالما هناك فئة من شعوبنا تعيش التطرف وترتديه وتعتبره سلوكاً مقدساً وجهاداً شرعياً لن ينفع أن تقدم شيئاً سوى القتل والذبح... وطالما هناك فئات لا يعنيها الوطن ولا تنتمي إلى تاريخه وثقافته وجغرافيته فلا يهما إلا أن تقتطع أجزاء منه لتصنعه دويلات وإمارات خاضعة وتابعه للغرب الذي يخطط لها ويأمرها ثم يبيعها في نهاية المطاف حسب مصالحه أو يخلعها كحذاء انتهت صلاحيته. بينما يدور الباقون في الفكرة ولا يخرجون منها حيث إننا عاجزون ولا نقدر أن نغير الفكرة.
وقبل أن نتمكن من تغيير هذا الواقع العربي، لا بدّ لنا من تغيير الطريقة التي نفكّر بها في مقاربة هذا الواقع. فالخطوة الأولى في عالمنا العربي والإسلامي التي يجب أن نبدأ بها، تكمن في إعادة جليل الاعتبار للفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين وللمؤسسات التعليمية، على أن يشكّل هؤلاء نخبة وطنية منيعة لا أن يجسّدوا أمراض مجتمعهم من شخصانية وفردية. إن المصداقية في كل شيء هي أساس، ولكن الوعي والمعطى المعرفي والإقناع القائم على الحجة والمنطق، أساس أيضاً، وما لم نتوجه في خطابنا الثقافي والسياسي والتربوي لشعوبنا إلى أسس علمية ومناهج عصرية تحفظ مقومات الهوية وتقترن بمصداقية في السلوك والعمل والتعامل، فإننا سنزيد الطين بلّة ولا نخرج الناس من المآزق بل نعمق المآزق ذاتها ونحبط الناس.
وأرى أن المثقفين مطالبون بالخروج من التبعية المشينة لسياسات عربية مفلسة، تناحرية وانفعالية وثأرية، تعيش الفتنة وتؤسس لها، وأن عليهم ألا يغرقوا فيما يغرق فيه إعلام تلك السياسة، وغيره من إعلام السوق والتردي، وأن يسارعوا إلى تبني خطاب بناء يشكل لهم حضوراً، ويستقطب جمهوراً على الوعي وسلامة الرؤية وصحة الرأي وخدمة الأمة واستقطاب الأجيال بما يفيدها ويخرجها من دوائر الضياع، خطاب يعزز الثقة، ويقف بوجه التشويه المتعمد للعروبة والإسلام، ويحي في النفوس الأمل، ويعلي من شأن الفكر والعلم والمعرفة ليضع حداً لتنامي الجهل ولاتباع الخائضين في الدم والمبيحين للقتل...
خطاب يحدد الأعداء والأهداف والسبل ويستوعب الواقع ومعطيات المرحلة واحتياجاتها، ليأتي مبنياً على استقراء الواقع وقراءته في ضوء المعطيات والمتغيرات والاحتياجات وحقائق العصر. وهذا بحد ذاته قد يقود إلى خلافات وتصادمية في الرأي بين فئات من المثقفين نظراً لاختلاف الرؤية والموقع والموقف والانتماءات، ونظراً للقرب أو البعد من المعلومات والحقائق من جهة، ومن مواقع صنع القرار السياسي والاقتصادي والتأثير فيهما من جهة أخرى. هذا فضلاً عن تأثير المصالح سلباً وإيجاباً على وضوح الرؤية واستقلالية الرأي... ولكنه التحدي الذي يفرض نفسه على أهل الفكر والعقل والحكمة، ويقتضي منهم أن يخرجوا إلى الشعب برؤية تجمع الشعب وتنقذه وتخفف من وطأة المعاناة والتمزق، وتقضي على الفتنة، وتفتح دروب الأمل.
قد يرتفع صوت بسؤال: هل نحن بحاجة إلى اتفاق على مسلمات أو بديهيات في الخطاب السياسي العربي؟ أقول نعم. لأن الكثير من المسلمات لم يعد كذلك، ولأن التشتت والتشظي والتشويه والاستقطابات المريضة قد وسعت دائرة المختلف وضيقت المؤتلف... وإن أبسط معطيات المنطق تحتم علينا أن نقف على أرض ثابتة تحت أقدامنا للانطلاق منها بثبات... لكن الصعوبة تكمن في إمكانية التوصل إلى ذلك على أرضية الخلافية العربية الراهنة التي غدت دموية ومذهبية وسياسية وقطرية ضيقة وتضيق لتصل إلى الولاءات الشخصية والعشائرية والمناطقية في كثير من الساحات العربية، مما أضعف ويضعف الروابط من جهة ويزعزع الثقة بما يمكن أن يعزز روابط الأمة أو يجمعها على رأي وموقف. ويكمن شيء من ذلك في وجود خروقات سياسية وثقافية وأمنية ـ استخبارايتة كثيرة للصف العربي، تمتد أفقياً وعمودياً، ولا يمكن مجاوزتها بسهولة، لا سيما بعد أن تحطم الكثير من جسور الثقة بين الأقطار والسياسات وشرائح المجتمع، وبين المثقفين والشباب والمهنيين والحرفيين والعمال وغيرهم في الوطن العربي، وبعد أن قامت مصالح للآخرين، ومنهم أعداء للأمة، بين ظهرانينا وعلى حساب مصالحنا وتوافق رأينا ووجودنا ذاته، وأصبحت حماية تلك المصالح مرتبطة بشكل أو بآخر ببقائنا قيد التخلف والتفرق والاقتتال.
فمن قائل بإسلاموية متطرفة تبنى على فهم ضيق للسلفية، إلى قائل بالعلمانية الأوروبية الحرفية وبالإلحاد... ومن سائر في رحابة الإسلام وسماحته واتساع أفقه مستوعباً القومية بلا تطرف منه ومن المنادين بها، إلى منادٍ بالقومية التي تجمع أبناء الأمة العربية على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ومشاربهم، ولا تعادي الدين ولا تأخذ بالتطرف، ومن متمسك بمقومات الهوية والشخصية والخصوصية العربية إلى متنازل عن كل شيء من ذلك ليرى نفسه مساوياً للآخر المتقدم في أية رقعة من الأرض، يأخذ منه ويعطيه ويماهيه، ويتجاوز في سبيل ذلك حتى عن لغته وقوميته وربما عن عقيدته، فهو يدين بدين العصر ويعتبر نفسه ابناً له وللطبيعة، ولا بأس عنده في ممارسة إلحاد وانحلال...؟!
وفي ظل تصارع هذه الفسيفساء أو تعايشها، نجد أنفسنا في حالة من حالتين: إما تصادم القوى الذي يجعل المحصلة النهائية لمجموعة القوى العربية الساعية لتنفيذ برامج بناء ونهضة ومناهج علمية لتحقيق أهداف محددة، صفراً أو قريباً من الصفر، هذا إذا لم تتصادم القوى والتيارات إلى درجة الإضرار بالنفس، وتدمير الأمة والعودة بها إلى درجات تحت مستوى الصفر في مجالات كثيرة... وإما تعاون وتفاهم وانسجام يؤدي إلى الإنقاذ والنهضة والتقدم. ويسأل المرء منا نفسه إلى متى، وأين المخرج... وكيف؟! في ظل هذه الأوضاع الكارثية، والدموية التي تعطل الأخلاق والعقل وتشوه المعتقدات والمفاهيم... وربما نجد بعض الإجابات، أو نصل إليها بالحوار البناء...
ترى ألا يكون الحوار البناء، في مناخه الصحي السليم، مجدياً ومحرراً من كثير من الأوهام، ومحجماً للغلو والغطرسة والترف والعنتريات المجانية، ومؤدياً إلى طريق التقدم والعلم؟! نعم. ولكن للحوار مقومات، وللمناخ الذي ينتعش فيه مقومات، ونحن بأمس الحاجة إلى أن نبدأ ذلك بثقة وإخلاص تحت سقف الوطن وفي إطار انتمائنا الواضح للأمة والعقيدة؟!
إن الحوار الذي أرى ألا مناص لنا من أن نخوضه، وصولاً إلى تعارف أعمق وإلى ثوابت تجمعنا ونتفق على أن تكون العمود الفقري لبرنامج عمل نخدمه جميعاً، إن ذلك الحوار يحتاج إلى مناخه وشروطه، وهو لا بد من أن يقوم على أرضية من المساواة والحرية والثقة والاحترام.
قدرنا منذ قرون هو أننا صناع حضارة عمرها آلاف السنين يريد المتغطرسون إبادة قيَمها الإنسانية واستبدالها بقيم الغرب القائمة على الحروب، والقمع، والاغتيال والتعذيب، مستفيدين من نقاط الضعف الداخلية والاستهتار بالقرار وقصر النظر أيضاً من بعض حكامنا. وعزوفنا عن قراءة التاريخ قراءة موضوعية معمقة، واكتفاءنا بمتابعة ''فبركات'' الإعلام المضلل، وبالمنقول الشفاهي المشوّه، هما ما يُفقران مصدّاتنا ودفاعاتنا الذهنيّة ضدّ وابل التزوير وخبث النيات وانسحاق بعض الضمائر وتكلسها! والحق، فإنّ الحرب التي تُعلَن الآن وتُمارَس ضد أكثر من بلد، هي حرب معلنة بالفعل على العرب المؤجلين القادمين من أقصى المستقبل، والدور يماشيهم كظلهم بكل تأكيد، إن عاجلاً وإن آجلاً!
*باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور