*مصطفى قطبي
فكرة غزو سورية لم تخرج من رأس أردوغان المشحون بالحقد العنصري والمذهبي، على العرب والعروبة، والمسلمين، ولأن سورية الحاضن الحقيقي لكل تلك السمات العظيمة، والحاجز الأقوى في وجه طموحاته وأحلامه، كانت سورية على قائمة أهدافه الأولى. وبعد أن فتح حدوده لتسلل الإرهاب العابر للقارات نحو سورية من خلال الجماعات الإرهابية قام أردوغان وضداً على كل القوانين والمواثيق الدولية، وبضوء أخضر من أميركا، قام النظام التركي بعدوان جديد ضد سورية استهدف شمال سورية، بحجة إقامة ما تسمى بـ''المنطقة الآمنة'' المزعومة بعمق 20 ـ 30 كم وبطول 460 كم وتمتد إلى الحدود العراقية ـ السورية.
العدوان الجديد يأتي بعيد الإعلان عن تشكيل ''جيش'' جديد من مجموعات وعملاء سوريين، وهذه المجموعات تتحمّل مسؤولية أساسية في دعم الغزو التركي، وللأسف فالمواطنون السوريون في الجزيرة السورية يدفعون ثمن ارتماء تلك الأطراف في حضن الأجنبي، حيث العدوان التركي للأراضي السورية يجعل من تركيا في موقع لا تختلف فيه كثيراً عن تنظيم ''داعش'' الإرهابي وغيره من التنظيمات الإرهابية، علماً بأن أردوغان الذي يتبجح بأنه يحارب الإرهاب هو من أوجد هذه التنظيمات، كما أن النظام التركي يحمي وجود ما تسمى ''جبهة النصرة'' الإرهابية في الكثير من المناطق السورية.
إنّ بعض الأطراف والقوى الكردية، التي احتمت بالأمريكي ضد وطنها وشعبها... قامت بخيانة وطنها، ومهدت الطريق لاحتلال قطعة يفترض أنها من بلادهم مثلما كان لأمثالهم دور في اقتطاع جزء أخرى يتمثل في عفرين... أما الآن فقد سبق السيف العذل، وتجارب التاريخ كلها تفيد أن نهاية العمالة والارتهان للقوى الخارجية معروفة النتيجة والعواقب، ويفترض بذلك الجزء المتطرف أن يستمع لصوت العقل السوري الوطني الانتماء، والذي يقول: إن الأميركي لم يكن يوماً داعماً لحقوق، أو حريات، أو ديمقراطية، وإنما باحث عن مصالحه الذاتية، ومشاريعه المدمرة في هذه المنطقة التي آن لها أن تتوحد فيها إرادة العرب والكرد والفرس والترك لمواجهة المخاطر التي تمس الجميع، وعدم إدراك ذلك سيجعل الجميع يدفع فاتورة باهظة التكاليف.
إن الطموح التركي في سوريا لم يخمد منذ بداية الحرب المدمرة في هذا البلد العربي. فمع توسع تدخل الأطراف الإقليمية والدولية في الأزمة السورية وانفتاح الصراع بالسلاح والمال بين تلك القوى، الداعم منها للنظام والداعم منها للمعارضة، وجدت تركيا فرصة لتوسعة حدودها الممتدة مع شمال سوريا. في البداية سعى الرئيس التركي أردوغان لدفع القوى الدولية والإقليمية المؤيدة للمعارضة لفرض منطقة حظر طيران في شمال سوريا ولم ينجح. ثم كان هدف إقامة ما يسميه الأتراك ''منطقة آمنة'' بعمق 30 كيلومترا داخل سورية وبطول الحدود مع الجارة الشمالية، ولم ينجح ذلك أيضاَ. ولم يكن السبب في عدم تحقيق تلك الطموحات أنها بالأساس تعني أن ''يعطي من لا يملك لمن لا يستحق''، فكل الأطراف ليست بحريصة على وحدة الأراضي السورية وعلى عودة سورية دولة قوية كما نسمع في تصريحات الجميع. إنما لم تكن تقاطعات المصالح توفر تلك الفرصة لتحقيق المطامع التركية.
إنّ تحرك القوات التركية والعدوان على الشمال السوري، في حقيقة الأمر، مدفوعة بأحلام استرجاع التاريخ العثماني. فمنذ بدايات القرن السادس عشر، والمنطقة تعاني من تبعات الأحلام التي راودت سلاطين بني عثمان. ففي العام 1516، وفي سياق تحقيق الحلم الذي راود السلطان سليم الأول، دخل مدينة حلب فاتحا في اليوم السادس من شهر أيلول من العام نفسه. وفي يوم دخوله خُطب له في جوامع المدينة ولقب بخادم الحرمين الشريفين! ولم يكتف حضرته بما حظي به بين أبناء حلب ذلك الزمان، فبادر، في اليوم نفسه، إلى إعداد جيش للزحف باتجاه دمشق. وجاء ذلك تتويجاً لانتصار كان قد حققه، قبل شهر من هذا التاريخ في مرج دابق شمال مدينة حلب، عندما قهر جيش السلطان قانصوه الغوري زعيم المماليك في المرج المذكور.
واليوم، يحاول السلطان طيب رجب إردوغان، إضافة معلومة جديدة على سجل العلاقات بين سورية وتركيا الأردوغانية، وذلك باقتطاع هذا الجزء أو ذاك من أرض سورية وضمه إلى السلطنة كأنه يحاول إثبات معادلة التاريخ يعيد نفسه... وما زلنا نذكر الوعد الذي التزم به أردوغان أمام مريديه خريف عام 2012 عندما قال لهم: إن يوم دخوله إلى دمشق بات قريباً، وإن الصلاة في الجامع الأموي لن تكون أكثر من تحصيل حاصل لذلك الدخول المفترض، كان ذلك كما بينت الأحداث اللاحقة أحلام يقظة لا رصيد لها على أرض الواقع، إلا أن ما لم يقله أردوغان يومها هو رغبته في أن يدخل دمشق على حصان عربي أصيل كما فعل أجداده بعد أن ثبت أنه يقف اليوم معهم على درجة واحدة من الكفاءة الوحشية والشوارعية الحضارية السلجوقية.
فهم (أجداده) أسسوا الانكشارية التي لم ترسِ من قيم سوى سفك الدماء حتى إنها أذهلت وول ديورانت (مؤلف قصة الحضارة) ودفعته إلى القول: إن ''الأتراك كانوا الأكثر دموية في التاريخ''، وعندما فرغوا منها قاموا بتحطيمها، وكذلك أردوغان استطاع أن يأتي إلى سورية بجميع القاذورات من أقاصي الأرض ليبني لهم غرفة عمليات مشتركة في تركيا ليديرهم من خلالها حيث المطلوب القتل والتدمير بأعلى درجاته...
الدولة العثمانية (الخلافة)، وبعد أن كانت (الرجل المريض) تتحول على يد أردوغان إلى (الرجل المجنون). لذلك يريد أردوغان أن يجلس على طاولة اقتسام البلاد في لعبة الأمم الدائرة في المنطقة، وجنونه يوهمه ويصوّر له أنه سيكون صاحب القرار على المنطقة كلها. فأطماع أردوغان باستعادة (الخلافة العثمانية)، هي صهيونية تريد سرقة بلاد الآخرين، وكما الصهيونية تقوم على خرافة شعب الله المختار، فإن صهيونية أردوغان تقوم على خرافة (الخلافة العثمانية)، التي اعتبرها أحمد داوود أوغلو، بأنها الخلافة التي يطالب بها الجميع ويحترمها الجميع ـ والجميع هنا ـ نحن العرب والمسلمين!
هذا الهوس الأردوغاني بالخلافة، جعلته يمارس الصهيونية بأبشع صورها، عندما يريد العودة إلى الماضي، إلى مطامع تركيا أيام سايكس بيكو، يومها طمعت تركيا بضم الموصل وحلب إليها ولم تنجح في تحقيق ذلك، واليوم ينتكس أردوغان إلى تلك الأيام مهاجماً سايكس وبيكو معتبراً أنهما جاسوسان تآمرا على الخلافة العثمانية. فجنون أردوغان وأطماعه، نجدها مجسدة في خريطة نشرتها مدونة (Davar Dea) الإسرائيلية، هذه الخريطة تتحدث عن شكل سورية حسب الرؤية الأردوغانية ـ الإسرائيلية، ويظهر فيها ضم تركيا للمنطقة الشمالية السورية الممتدة من شمال اللاذقية مروراً بالريف الجنوبي لكل من إدلب وحلب والرقة... ومن يدقق في هذه الخريطة الصهيونية ـ الأردوغانية، يفهم كلام أحمد داوود أوغلو، عن المناطق الآمنة في سورية، ومن يدقق في الأماكن التي قال إنها تحتاج لتكون مناطق آمنة يجد أنها تحقق هذه الخريطة... وهكذا فإن التلاقي الصهيوني ـ الأردوغاني يكشف عن (صهيونية إسلامية جديدة) تحاول السيطرة على المنطقة.
كل حالات الجنون والهيستيريا في مدياتها المنظورة وغير المنظورة لن تتمكن من قلب المعادلة، ولا من إحداث تغيير فيها، وإذا كان من الثابت أنّ بين الميدان والسياسة علاقة عضوية قوية، فعلى النظام التركي أن يقرّ بالوقائع، وأن يعترف بالعجز والفشل، وأن يلتقط الفرصة المُتاحة قبل فوات الأوان.
فأوراق أردوغان الكثيرة احترقت، والباقي منها قد تُحرق مُستقبله السياسي ومستقبل حزبه الإخواني ومشروعه كاملاً قبل أن تتحول إلى رماد، وعلى العالم بمجلس الأمن وبغيره أن يتحمل مسؤولياته وأن يردع عدوان وحماقات أردوغان فوراً، أو أن ينصحه بالالتفات لحل مشكلاته الداخلية الكارثية... لا بمحاولة تصدير أزمته إلى الخارج، وعلى العالم بمجلس الأمن ومن خارجه أن يُحدد موقفه من تركيا الإخوانية التي تدعم التنظيمات الإرهابية، والتي تُمارس الإرهاب والإقصاء ضد طيف واسع من الأتراك.
إن المؤامرة التي تنفذها تركيا نيابة عن أمريكا وإسرائيل هدفها تقسيم المنطقة العربية، والاستيلاء على منابع النفط وسلب هوية الإنسان العربي بما في ذلك عدم الاعتراف باللغة العربية وإبدالها باللغات المحلية الشعوبية، كما أراد (أتاتورك) في مقترح له (بأنها لغة قديمة لم تعد صالحة للنطق بعد الآن)، سانده في ذلك بعض الشعوبيين من العرب، ومن هنا لا تزال تركيا المدعومة من القوى الإمبريالية هي المصدر الأكبر والرئيسي بعد إسرائيل لتهديد الأمن القومي العربي. فقد طغى خطرها، وفاض تهديدها، ويزداد خطر تركيا على أمننا القومي العربي بعامة وبخاصة على (سورية والعراق).
*باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور