اذا كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لم يجد حرجاً في نعي العهد والطائف سواء بسواء ناصحاً لرئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري بعدم قبول التكليف لتأليف حكومة جديدة، فمعنى ذلك ان تداعيات الأزمة السياسية – الحكومية باتت تنافس تداعيات الأزمة المالية – الاقتصادية بل تتفوق عليها، وهذه وتلك تضعان البلاد أمام أخطار مصيرية غير مسبوقة. وعلى رغم الدلالات البارزة لمواقف جنبلاط في هذا التوقيت، فإن مؤشرات الأزمتين الحكومية والمالية بدت أساساً كأنها اتجهت الى مزيد من التدهور والتراجع، خصوصاً في ظل الجمود "الخيالي" في التحركات والجهود السياسية الداخلية للبحث عن مخرج انقاذي لأزمة التكليف ومن ثم التأليف اذ بدا الخواء السياسي الذي ساد المشهد الداخلي في الأيام الأخيرة كأنه انعكاس لاحتمالين لا ثالث لهما: أما عجز سياسي واستسلام شامل يبدأ من الموقع الدستوري الأول أي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ويتمدّد في اتجاه سائر المراجع والقوى السياسية أمام الأزمة بكل وجوهها بما فيها العجز عن الاتفاق المسبق على تكليف الرئيس الحريري مجدداً تشكيل حكومة لأن مسار التأليف بات يسبق مسار التكليف في انقلاب موصوف على الدستور. وإما استمرار للعبة الرهانات والحسابات السياسية والمناورات التقليدية والعض على الأصابع لفرض الشروط والشروط المضادة، وهو أمر بات يتسبّب بمزيد من الاهتراء والنزف ولا يكفل اطلاقاً التوصل الى تسوية سياسية من شأنها تجديد التسوية الأساسية التي أوصلت الرئيس عون الى بعبدا. ذلك أن مجريات الأوضاع الداخلية وتداعيات انتفاضة 17 تشرين الأول أطاحت تقريباً معظم مكونات التسوية "الأصلية" وبات الحفاظ على شعرة معاوية الأخيرة فيها رهناً بحسم اسم الرئيس المكلف وما اذا كان الحريري سيعود أم سيخرج من رئاسة الحكومة. تبعاً لذلك، ستتجّه الأنظار مجدداً الى الكلمة التي سيلقيها الرئيس عون في الثامنة مساءً اليوم لمناسبة عيد الاستقلال وما إذا كانت ستحمل جديداً عن الأزمة الحكومية بما يفتح الباب على تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة للتكليف بعد طول تأخير لهذا الاستحقاق. حتى أن بعض الأوساط السياسية راهن على تحريك سياسي في الساعات المقبلة معلومات تحدثت عن اعادة تحريك المحركات الخامدة وتشغيل الاتصالات بين بعبدا و"بيت الوسط" من جهة، وبين "بيت الوسط" والثنائي الشيعي من جهة اخرى بحثاً عن خيط واه لانطلاق الحلّ. وتفيد المعلومات أنه على رغم تجدّد الاتصالات عبر قنوات مباشرة وغير مباشرة، فإن أي تقدم أو تغيير لم يحصل بعد في الكباش القائم حول الصيغة الحكومية العتيدة أي بين صيغة حكومة التكنوقراط التي يتمسّك بها الرئيس الحريري وصيغة الحكومة التكنوسياسية التي يتمسّك بها العهد وتياره والثنائي الشيعي. وقد نقل عن الرئيس الحريري تأكيده أمس لكتلة "المستقبل" التي رأس اجتماعها الأسبوعي الدوري أنه على موقفه الثابت من ضرورة تأليف حكومة اختصاصيين وأنه يقبل بتأليف حكومة كهذه وليس وارداً أن يقبل بحكومة تكنوسياسية، كما أنه مستعد للبحث في أي بديل منه كما فعل لدى طرح اسم الوزير السابق محمد الصفدي منعاً لاستمرار الفراغ الحكومي. وفي المقابل، كشف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي عدم نيته المشاركة في الحكومة المنوي تشكيلها، ورأى في حديث الى "ام تي في" أن "المشاركة ستكون لها الأثر السلبي على الحزب". وقال: "بعد عقود في المشاركة في الحكم أصبنا بالاهتراء وآن الأوان لورشة داخلية"، موضحاً أنه "بين المشاركة في الحكومة والحزب أفضّل العودة الى الحزب". وسئل عن رأيه في إمكان عودة الوزير جبران باسيل إلى الحكومة أجاب: "أعتقد أن هناك وجوهاً انتهت"، وذهب الى القول أن "العهد كلّه انتهى وكذلك الطائف وما يحصل على الصعيد الحكومي مخالف للدستور". وأضاف: "نصحت الحريري بعدم ترؤس الحكومة المقبلة وقلت فليحكموا حتى لو كانت من لون واحد لكن يبدو أن كلامي لم يلق صدى". كما كشف أنه قال للحريري "إيّاك وتسمية النائب السابق محمد الصفدي". في غضون ذلك استرعى الانتباه أن منسوب الاهتمامات الدولية بالوضع الناشئ في لبنان بدأ يرتفع باطراد. وسجلت في هذا الاطار أمس دعوة الأمم المتحدة الى تأليف سريع لحكومة في لبنان "تستجيب تطلعات المتظاهرين وتحظى بدعم من البرلمان". كما حضّت الأمم المتحدة قوى الأمن على الاستمرار في حماية المتظاهرين السلميين.
باريس والتحرك الداعم
على أن الأهم برز في ما نقله مراسل "النهار" في باريس سمير تويني عن مصادر طلبت عدم ذكر اسمها من أن زيارة مدير دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو لبيروت أخيراً كانت في الدرجة الأولى استطلاعية ورسالة دعم وللمطالبة في ظل الوضع الخطير الذي يمر به لبنان بتشكيل حكومة اختصاصيين لاتخاذ القرارات الضرورية لتطبيق الاصلاحات وللاستجابة لمطالب الشارع اللبناني.
وكرّرت المصادر أن باريس لا تريد التدخل في تشكيل الحكومة اللبنانية ويعود الى اللبنانيين أن يتوافقوا في ما بينهم لإخراج حكومة من عنق الزجاجة وذلك لإيمان الفرنسيين بسيادة لبنان وعدم رغبتهم في التدخل في شؤونه الداخلية. وأفادت أن جولة فارنو أتاحت معرفة مواقف جميع الأطراف على الساحة الداخلية بالنسبة الى الحلول السياسية والاقتصادية، وأن فرنسا هي باستمرار "على السمع" وتتابع التطورات.
وقد عرضت نتائج الزيارة خلال الاجتماع الذي عقد أول من أمس في وزارة الخارجية الفرنسية بين ممثلين لفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا واعتبر المجتمعون أنه يعود الى اللبنانيين التحرك لأن البلد يمر بوضع متأزم كبير اقتصادياً وسياسياً وأن الشارع يرفض النظام الحالي.
ويعود الى الطرف الفرنسي الذي تولى هذه المبادرة وفي سياق جولة فارنو، حشد شركاء فرنسا والمجتمع الدولي لتأمين حل للازمة. وستجري باريس اتصالات مع حلفائها الدوليين والاقليميين لهذا الغرض علماً أن لا خلافات تذكر بين الأطراف الدوليين، ولا سيما منهم الفرنسي والأميركي، حول الحلول على رغم أن لكل طرف حساسيات خاصة به. ومع أن الحل المنشود يتطلب التحرك بسرعة فإن الدوائر الديبلوماسية لا تزال في مرحلة التفكير في سبل الدعم من أجل تحريك عملية الاستشارات وتأليف الحكومة من خلال اعادة الثقة بين جميع الأطراف. وتأمل باريس في عدم حصول أي قمع للحراك شعبي. وتعتقد باريس انه يستحسن أن يكون الفريق الحكومي الجديد من اختصاصيين غير تابعين لأحزاب سياسية وأن يحوز ثقة الجميع وأن يعمل بسرعة من أجل اقرار الموازنة والبدء بالاصلاحات الضرورية التي تحتاج الى تمويل كالقضاء مثلاً. ذلك أن الدول المانحة لن تقدم الى لبنان شيكاً على بياض وهو في حاجة ماسّة الى تمويل دولي وهذا يقتضي من الحكومة التزام برنامج اصلاحي يطبق.
وترى باريس أن حكومة مواجهة ستزيد الوضع تأزماً ولن تحل المشكلة. وفي هذا الاطار، ستقوم باريس بدور المسهل وهي تتابع عن كثب الأحداث وتأمل في عدم التصعيد الأمني لأن ذلك سيؤدي الى مزيد من التأزم الاقتصادي والمالي. وتأمل في التوصل الى حلول خلال الأسابيع المقبلة.
وطرحت بعض الأفكار للمساعدة، منها دعوة الى عقد مؤتمر للدول الداعمة للبنان، لكنها حتى الآن لم تتعد الفكرة، ولم يحدّد بعد على أي مستوى يمكن ان يعقد هذا المؤتمر، فالأمر مرهون بالتطورات الداخلية وأبرزها تشكيل الحكومة.
صحيفة النهار