*مصطفى قطبي
تفيض الذاكرة العربية بمشاهد الذين استرزقوا على حساب القضية الفلسطينية وبينهم من باع واشترى بإسمها وفاوض أحياناً على التفريط بالحقوق الفلسطينية سراً وعلانية تحت شعارات الدفاع عنها ورسمت له أدوار وعقدت صفقات التنازل عن الحقوق وقدم وعوداً بتصفية ما تبقى من رمزية للقضية وتبجح بالتشفي من العرب برفع شارات النصر المزعوم عليهم وعلى حقوقهم ووجودهم ومصيرهم...
ما يجري على أرض الوطن العربي، بمركزيّة معركته في فلسطين، يُعتبر ولادة زمن جديد، دون تبدل الأهداف عند القوى الوطنيّة القوميّة التّقدميّة والإسلاميّة المقاومة... تتبدل بعض التكتيكات، وتظل الإستراتيجيّة المقاومة هي السّمت، وما أظنّ أنّ عاقلاً، منصِفاً، يلتبس عليه الأمر، فحيث تقف دولة البترول المنهوب، لا تطمئنّ القلوب، بسبب التّجربة المريرة معها، فلو صدق البتروليّون الوهابيون، سابقاً ولاحقاً، لكانوا قادرين على إجبار الغرب على الإنصياع للإستجابة للحقّ العربي في فلسطين، ولكان بإمكان نثريّات أموالهم أن تجعل من كلّ صحارى العرب وبواديها جنّات، ولكنّهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا...
وما تشهده المنطقة حالياً من تنسيق علنيّ بين الرياض وتل أبيب ضدّ القضية الفلسطينيّة، إلا حلقة جديدة في سلسلة من العلاقات التآمرية السريّة بين الكيانين الإسرائيلي الصهيوني والسعودي الوهابي، هدَفه الاستراتيجي تصفية القضيّة الفلسطينيّة. وفي سياق إلقاء الضوء، وتعرية المعرى، وليس بعيداً عن الاصطفافات القائمة، وبخاصة فوق مساحة معينة من هذه الأرض، ومن المهم تسليط الضوء على حكام (الحجاز ونجد) بوصفهم قاطرة العمل التآمري على فلسطين.
فأسرة آل سعود هي من تاجرت بالقضية الفلسطينية وفرطت بحقوق الشعب الفلسطيني، وكلنا يتذكر محاولة الملك السعودي عبد الله في قمة بيروت العربية تمرير مبادرته للسلام مع إسرائيل دون أن يدرج حق عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه فيها، كما أن الأسرة السعودية تستمر بتمويل بناء مستوطنات الاحتلال الصهيوني من فوائد أموالها المنهوبة من مقدرات الشعب السعودي الموضوعة في البنوك الأميركية. فالنهج الذي اختطه نظام آل سعود، والمنخرط في إطار رؤية إقليمية ودولية تتناقض مع المصالح العربية، تجاه المسائل التي تتعلق بالأمن القومي العربي كان من الخطورة بمكان، وعرض هذا الأمن ليس لاختراقات هنا وهناك فحسب، بل لنكبات عديدة ساهمت في شرذمة الوضع العربي وتهميش القضايا القومية، وإضعاف الشعور بهذه القضايا إلى أبعد الحدود.
ولكي لا تأخذنا التفصيلات، لابد من التركيز على بنية النظام السعودي، فهو نظام ديني، رجعي، أعرابي، فهو الأكثر رجعية، ولوذاً بالشوارع الخلفية فيما يتعلق بقضية فلسطين، وقد استطاع أن يبعد واقع ما هو عليه عن تسليط الضوء بالمال لا بأي شيء آخر، واشترى سكوت الذين يختلف معهم، عربياً، بالمواقف السياسية تارةً، وبصرف الأنظار عنه تارة أخرى، وكأنه كتلة مستقلة، معزولة، لا علاقة لها بما حولها، وهذا مخالف لسنن الحياة وتشابكاتها، وليس خافياً الدور الذي قام ويقوم به النظام السعودي، فهو حريص على إبقاء الأمور كما هي في مجتمعه، مظهر إسلامي، كابح، وسلطة ملكية وراثية، وضخ للبترول إلى حيث الآلة الغربية، وإبقاء المجتمع على ركوده، وكأن ما هو عليه هو الحالة الدينية والدنيوية المثلى، بل والتي لا يجب مسها، بسبب ما يخلع عليها وعلى نفسه من قيم ذات مواصفات دينية.
في (أيلول 1932)، أعلن عبد العزيز آل سعود، نفسه ملكاً على السعودية، معتمداً على أنصاره البدو من الحركة الوهابية المتزمتة في تثبيت دعائم حكمه. واعتبر الملك الجديد نفسه الحامي لأرض الإسلام، كسباً لولاء الشعب، الذي لا يجمع فيما بينه أي ولاء مشترك. وقد وفر النفط للعائلة المالكة نشوء علاقات قويّة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام عبد العزيز بإنهاء سيطرة بريطانيا على موارد النفط في بلاده، وفتحها للشركات الأمريكية، تلبية لطلب الرئيس الأمريكي (فرانكلين روزفلت) الذي التقاه على ظهر الطراد (كوينسى) في البحيرات المرة في مصر، وحدثه آنذاك عن البترول وفلسطين معاً.
ولئن أسس ''عبد العزيز آل سعود'' لهذه العلاقة برسالة أوردها الشهيد ''ناصر السعيد'' في كتابه (تاريخ آل سعود) كانت قد سبقت وعد بلفور، حيث كتب الملك ''عبد العزيز'' اعترافاً يمنح به ما لا يملك فـ ''يعطي'' فلسطين وطناً لليهود، يقول نصه: (أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، أُقرّ وأعترف ألف مرة للسير ''بيرسي كوكس'' مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما ترى بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة''. وهذه العلاقة قد أكدها وسقاها ''بن غوريون'' بمنح عبد العزيز عشرين ألف جنيه من تبرعات يهود بريطانيا وأوروبا.
كان الملك عبد العزيز محرجاً حين طالب الثورة الفلسطينية عام (1936) بإيقاف هجماتها على القوات البريطانية، اعتماداً على وعد بريطاني وهمي بالحد من هجرة اليهود إلى فلسطين، ولم تتوقف حينها هجرة اليهود. فقد لعب الملك عبد العزيز دوراً في إقناع زعماء فلسطين، وعلى رأسهم الحاج الحسيني من أجل إيقاف انتفاضة (1936) نزولاً عند رغبة بريطانيا، على أمل أن تستجيب لمطالب العرب في إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
نَشر القائد طه الهاشمي في مذكراته في جريدة (الحارس) البغدادية، وكان رئيساً للجنة العسكرية المنبثقة سنة (1947 ـ 1948) عن جامعة الدول العربية للإشراف على حرب فلسطين. قال الهاشمي: (إنّ الحكومة السعودية أبرقت للجنة العسكرية عن أسلحة معدّة لإنجاد فلسطين موجودة في ''سكاكة'' بالصحراء السعودية، فأرسلت الحكومة السورية طيّارات عسكرية فأحضرت تلك الأسلحة لدمشق، وسلّمتها إلى المصنع الحربي التابع للجيش السوري لفرزها وتبويبها، فإذا هي أسلحة عتيقة متعددة الأنواع، والأشكال، فيها الموزر والشنيدر، والمارتيني...، وفيها بنادق فرنسية، وإنجليزية، وعثمانية، ومصرية ويونانية، ونمساوية وكلها بدون مخازن وكلها صدئة ''خردة'' لا تصلح لقتال).
لم يقم الموقف السعودي إلى القضية الفلسطينية، لاعتبارات قومية أو إنسانية، وإنما شكلت الاعتبارات الدينية أساس موقفها تجاه ما يحدث على أرض فلسطين، وفي جوهرها المسجد الأقصى الشريف الذي يعد المساس فيه مساساً بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
يذكر ناصر السعيد في كتابه (تاريخ آل سعود)، أنهم تظاهروا في يوم (17 ـ 6 ـ 1947) في يوم أطلق عليه (يوم فلسطين) في منطقة رأس تنورة رفضاً لتقسيم فلسطين، وطالبوا بقطع البترول عن أمريكا وبريطانيا لدعمهما لليهود، فكان جواب آل سعود: (بأن البترول الذي تطالبون بقطعه إسمه ـ الذهب الأسود ـ وقطعه يعني اكتنازه في الأرض، وهذا ينهى عنه القرآن).
فخلال الخمسينيات والستينيات، وضعت العلاقات السعودية ـ الأمريكية، العائلة المالكة في موقف مناقض للمد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر. ففي عام (1964)، تولى حكم المملكة، فيصل، بعدما فشل أخوه سعود خلال فترة حكمه التي امتدت سبعة شهور، تولاها بعد وفاة والدهما عبد العزيز. فقد قاد فيصل المملكة في الفترة التي كانت تشهد المد القومي العربي، وحاول السير في طريق متوازن بين الولاء للعالم العربي والحفاظ على مصالح المملكة الخاصة.
ففي تلك الحقبة، أثار الشعار الذي رفعه القوميون العرب (بترول العرب ملك للشعب العربي) مخاوف الشعب السعودي التي تجعل من نفطهم ملك لكل العرب. وأيضاً مخاوف الأسرة المالكة، التي كانت ترى في فلسفة الاشتراكية العربية خطراً على مصالحها، كونها مع توزيع ثروات البترول العربية على كل العرب.
فالتغيرات الجذرية التي أصابت العديد من أنظمة الدول العربية خلال الخمسينيات والستينيات، مترافقة مع صعود جمال عبد الناصر والوحدة مع سوريا، وسقوط النظام الملكي في العراق، جعلت الملك سعود يقع في مؤامرة هزلية لاغتيال جمال عبد الناصر، زادت من النقمة الشعبية للجماهير العربية على آل سعود، ومن عزلة المملكة. وفي الوقت الذي كان فيه الثوريون العرب يعملون على تدعيم روابطهم مع الاتحاد السوفييتي، كان آل سعود يعملون على توثيق علاقاتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية.
عمل فيصل تدريجياً على خروج المملكة من عزلتها، وحاول السيطرة على شؤون البلاد الخارجية، كما لجأ إلى استخدام الدين، (الإسلام) كسلاح ودرع واق في وجه عبد الناصر. وتجلى الصراع بين راديكالية عبد الناصر وخط فيصل المحافظ. أما على أرض اليمن، ففي عام (1962) شهد هجوم جنوب اليمن الماركسي ضد الشمال الذي تجمع للدفاع عن إمامهم، محمد البدر، فدعم عبد الناصر الجنوب بإسم الثورة والقومية العربية مقابل دعم فيصل للإمام.
واستمر القتال خمس سنوات وضعت فيها السعودية أموال النفط في وجه عبد الناصر، وانتهى القتال بهزيمة عبد الناصر في عدوان (1967)، التي أدت إلى القضاء على سطوة الدول الراديكالية كلها. ورغم أن الهزيمة أصابت العرب جميعهم، إلا أن الشغل الشاغل لآل سعود، لم يتعد قضية القدس، وهو ما كان يشغل بالهم أكثر من قضية الفلسطينيين وأرضهم الضائعة.
ففي نفس العام، قام فيصل بزيارة لندن لعلمه بالهجوم الإسرائيلي المؤقت الذي سوف تشنه على قطاع كبير من الدولة العربية حتى يتغيب عن الأحداث. وبعد رجوعه من لندن، في اليوم (7 حزيران)، وعندما كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المطارات السوريّة والمصرية وجيوشها وتتقدم لاحتلال الضفة الغربية وسيناء والجولان، كان فيصل يقنع الشعب باحتفال جماهيري أقامه في ملعب السباق بمناسبة عودته من بريطانيا بصداقة الدول الغربية.
فما كان من الجماهير الموجودة إلا أن رددت شعارات حماسية تدعو فيها لموت لأمريكا، وسقوط الغرب، وللمعتدين والمتواطئين، كما طالبوا بقطع البترول عن المعتدين. فما كان من فيصل إلا أن هرب من البوابة الخلفية. كتب الملك حسين في كتابه (حربنا مع إسرائيل) عن الملك فيصل: (إن الإمدادات السعودية دخلت الأردن بعد الحرب وحين انتهى كل شيء).
بعد هزيمة حزيران، لم يعطِ الفلسطينيون الدول العربية الفرصة لكي ينسوا قضيتهم، وولد شعور الهزيمة وفقدانهم الأمل بقدرة العرب على تحرير أرضهم إلى تفجير طاقات الشباب الفلسطيني الثائر في مخيمات اللجوء، ليعلنوا الحرب الشعبية ضد كل من يتوانى عن دعم مطالبهم في وطنهم فلسطين. ولم يكن أمام النظام السعودي الحليف للنظام الأمريكي الداعم الأول لـ(إسرائيل)، إلا الدفاع عن نظامهم وتوزيع النفط وعلاقاتهم مع الأمريكان.
فكان على حكام آل سعود دعم الفلسطينيين ليحموا أنفسهم من هجمات الفدائيين التي قد تصيب المصالح الأمريكية على أرضها. فما كان من فيصل إلا أن طلب من حليفه الرئيس الأمريكي نيكسون السعي لإيجاد حل دبلوماسي للصراع العربي ـ الإسرائيلي، لأن إطالة النزاع ستشكل خطراً على العلاقات الأمريكية ـ السعودية. وفي الوقت نفسه، بدأ يضخ الأموال لحركة فتح، ودعا كذلك إلى مقاطعة البضائع والشركات العربية التي تتعامل مع (إسرائيل).
كان الملك فيصل يأمل بأن يؤدي السلام إذا ما حل بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى إخماد الراديكالية العربية، وإضعاف نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة. فقد اعتبر نفسه الملك المسلم الذي يحارب الشيوعية في العالم العربي.
ومع موت عبد الناصر وترأس السادات مكانه، أسهمت السعودية في إبعاد مصر عن الاتحاد السوفيتي. ففي (تموز 1972)، ومقابل طرد السادات للروس من مصر، قام فيصل بزيادة المعونة السعودية السنوية لمصر، وجمع ما يقرب من (500) مليون دولار من دول الخليج الأخرى لشراء الأسلحة لمصر و(450) مليون دولار لتدعيم ميزان المدفوعات. وفي صيف (1973) توجه فيصل للقاهرة ليؤكد أن السعودية سوف تفرض حظراً بترولياً على الدول المؤيدة لـ(إسرائيل) إذا قامت مصر بمهاجمة (إسرائيل) في الأراضي التي احتلتها عام (1967). رغم أنها في السابق، رفضت تسليم عبد الناصر سلاح النفط، لكنها لم تبخل على السادات بذلك، كونه أبدى استعداده للتفاهم مع السعوديين مقابل إنقاذ بلاده اقتصادياً، فالسادات لم يكن يمثل تهديداً لهم، وقد اتضح بعد ذلك أن السادات أرادها حرباً من أجل توقيع (كامب ديفيد) على عكس السوريين الذين أرادوها تحريرية وخذلهم السادات.
في حرب تشرين (1973)، كان هناك خط تلفوني مباشر بين القاهرة والرياض، وكان السعوديون يراقبون سير الحرب. وفي الأسبوع الثاني منها، مع بداية التراجع وتزايد الخسائر للجيوش العربية، وتخصيص نيكسون (2.2) بليون دولار كمساعدة عسكرية لـ(إسرائيل). ذعر فيصل من أن تتعرض المملكة لعزلة عربية في بحر الغضب العربي من الموقف الأمريكي، فبدأ الحظر النفطي وارتفعت أسعار البترول بشكل جنوني، وأصرت الدول المنتجة بأنها ستستمر بقطع النفط حتى يتوقف الدعم الغربي لـ(إسرائيل).
ولكن الأمر لم يطل، فالملك فيصل يدرك وعائلته المالكة بأن أمريكا هي الحاضن والداعم لهم في وجه أعدائهم الداخليين والخارجيين. فمع فصل القوات المصرية والسوريّة والإسرائيلية، وجهود كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي المستميتة، رفعت السعودية الحظر عن النفط. حين ناشد كيسنجر الملك فيصل لكي تعيد السعودية ضخ البترول، بحجة أن حظر النفط يقف عقبة في طريق الجهود الأمريكية من أجل عملية فك الاشتباك في حرب تشرين (1973).
ولم يمض عام حتى وصل فريق تابع لوزارة الدفاع الأمريكية للرياض لوضع استراتيجية عسكرية أمريكية ـ سعودية مشتركة لضمان أمن المملكة.
لقد رفع حظر النفط من قيمة هذا البلد في نظر أمريكا، وأصبح الدفاع عن نفطه واحد من أهم بنود سياستها في الشرق الأوسط. واكتشف العرب بأن نفط العرب هو ليس لكل العرب وأن ثروات السعودية لن تنتقل إلى الأمة العربية إلا على شكل مساعدات وهبات للحكومات العربية. وقد لخص أحمد الشقيري الرئيس الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية حالة الإحباط بقوله: (لقد انتصر بترول العرب على العرب).
شكل العام (1973) سنة ظهور السعوديين دائرة الضوء، وبدأت تحاول أن تجد لها مخرج بعيد عن مطالب العرب التي لا تنتهي، في الوقت نفسه كانت خشيتها مستمرة من غضب الفلسطينيين. ولم يجد فيصل مخرجاً إلا في تدعيم وضعه باعتباره الزعيم للمحافظين الدينيين الإسلاميين، واعتمد الإسلام منهاجاً في سياسته الخارجية. ودعم موقفه في كتاب لأحد الأصوليين يدعو فيه لإحياء الخلافة الإسلامية بزعامة فيصل، وعبأ السعوديون أموالهم كحماة لمكة والمدينة، وأصبح رمز تلك الفترة (البترو ـ إسلام)، التي انتهت بمقتل فيصل عام (1975).
مع توقيع مصر اتفاقية (كامب ديفيد) عام (1978)، وقف آل سعود عاجزين عن اتخاذ قرار في اللحاق بمصر بركب السلام كما توقعت الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبح موقف السعودية حرجاً جداً ما بين الاستجابة لرغبة أمريكا أو الوقوف لجانب الدول العربية التي تجمعت ضد مصر. وابتعدت السعودية نهائياً عن الظهور أمام الرأي العام العربي، لتواجه بعدها الثورة الإيرانية عام (1979)، التي قادها الخميني مبشراً بالخلاص، وتطهير عالم الإسلام من الشيطان الأكبر (أمريكا)، الحامي الأول للنظام السعودي.
كان الخوف السعودي من انتفاضة داخلية للشيعة في المنطقة الشرقية، وأصبح الخطر الذي يهدد النظام الذي يستمد شرعيته من الإسلام واقعاً فعلياً. وأصبح الخوف من الإسلاميين أكبر من موجة المد القومي في الخمسينيات والستينيات. لقد كان اتهامات آية الله لهم بأنهم الفاسدين الآثمين لا يستحقون تولي شؤون الحج والكعبة. لهذا وقفت السعودية إلى جانب صدام في حربه ضد إيران عام (1980)، وتدفقت الأموال السعودية لمساندة الجهود العسكرية العراقية. لم يكن من الصعوبة على المملكة أن تحتفظ بهويتها العربية، واتفاقياتها الدفاعية الأمريكية تبقى بعيدة عن الأنظار.
وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية، عام (1981) قدم الملك فهد الذي خلف خالد مبادرة للسلام، لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كانت وما زالت السعودية ترى أن القضية الفلسطينية هي سبب عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. كانت مبادرة فهد ترتكز على (8) نقاط: دعت لانسحاب الإسرائيليين من الضفة وغزة، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية في تلك الأراضي التي بنتها (إسرائيل) منذ العام (1967). بناء دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. والتعويض العادل فقط للفلسطينيين الذي أخرجوا بالقوة من أراضيهم عام (1948).
لقد اعتبرت السعودية بأن المبادرة التي قدمتها عادلة، وتقدم حلولاً عادلة لكلا الطرفين. وانتابها شعور بالإحباط لتجاهلها من حليفتها الولايات المتحدة، وعدم قبولها من (إسرائيل). ومع هذا لم يكن العراق ذو النظام البعثي يثير الراحة لدى النظام الملكي السعودي، وكانت لا تزل تبحث عن بديل للعروبة. ووجدوا المخرج بمجلس التعاون الخليجي، الذي تأسس عام (1981) بتوجيه آل سعود وإشرافهم. وقد وضح آل سعود بأنه ليس جزءاً من الجامعة العربية، وليس بخارج عن الروابط التقليدية للسياسات العربية.
لقد تركت حرب الخليج الأولى آثاراً على السعودية حين أصبحت في وجه كل من إيران والعراق.
فأصدرت السعودية فتوى بإسم شيخها عبد العزيز بن عبد الله باز، كبير العلماء الوهابية، أعلن فيها الحرب المقدسة ضد العراق. واستخدم المال للضغط على العرب الذين وقفوا ضدها، وبهذا فقدت منظمة التحرير الفلسطينية الأموال السعودية، ملايين الدولارات كل عام، بعدما زار الرئيس ياسر عرفات صدام حسين إبان حرب الخليج. وخسر الفلسطينيون العاملون في السعودية وظائفهم، وتعرض بعضهم للمعاناة، فاضطروا للخروج منها وطرد العديد منهم.
صحيح أن السعودية لم تطبع مع الكيان الصهيوني، لكنها قبلت بوجوده واحتلاله لأرض فلسطين. ففي خطة فهد للسلام، دعا للحصول على حق كل دولة في الشرق الأوسط للعيش بسلام. وبالتالي فالمملكة مستعدة للاعتراف بـ(إسرائيل) إذا ما نفذت جميع النقاط من خطة فهد المتعلقة بالفلسطينيين.
فوجئ السعوديون بتوقيع اتفاقية أوسلو، وأبدوا تحفظهم عليها، انطلاقاً من شعورهم بالغبن، لتجاهل الجميع مبادرة الملك فهد الذي يعتب بأنها قدمت شروطاً أفضل للفلسطينيين من أوسلو. ولم تمضِ سنة، حتى زار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، الرياض وكانت أول خطوة للتقارب بين الطرفين في أعقاب أزمة الخليج (1990 ـ 1991). وفي العام (1995)، كانت المملكة العربية السعودية أول دولة عربية تعترف بجوازات السفر الصادرة عن السلطة الوطنية الفلسطينية. كما وافقت لاحقاً على استيراد السلع التي تنتجها أراضي تابعة للسلطة الفلسطينية.
مع انتفاضة الأقصى عام (2000)، تقدمت المملكة السعودية المتمثلة بولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بمبادرة في قمة بيروت عام (2002)، لحل النزاع بين العرب والكيان الصهيوني سميت بالمبادرة العربية قائمة على مبدأ انسحاب العدو الإسرائيلي إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967، مقابل إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، يليها الاعتراف العربي بإسرائيل كدولة طبيعية معترف بها في منطقتنا العربية. لكن وبعد التدقيق والتمحيص ببنود مبادرة الأمير السعودي عبد الله بن عبد العزيز اكتشف رئيس القمة العربية آنذاك فخامة الرئيس اللبناني إميل لحود، أن المبادرة لم تلحظ مبدأ حق العودة للفلسطينيين، وفيها خرق واضح لقرار الأمم المتحدة رقم 194 القاضي بحق عودة الفلسطينيين الذين هُجّروا من أرض فلسطين عام 1947، حينها رفض الرئيس إميل لحود إقرار المبادرة العربية ما شكل سابقة غير معهودة في تاريخ القمم العربية، أن يرفض رئيس قمة عربية إجماعاً عربياً بالموافقة على المبادرة.
الرفض اللبناني ترك أثراً كبيراً صادماً مسبباً إرباكاً واضحاً لدى مختلف الوفود المشاركة في القمة وفاتحاً ملف حقيقة التآمر والتخاذل العربي للتخلص من القضية الفلسطينية وإنهائها، ولو كان بالشكل المذل للعرب وللفلسطينيين، وأيضاً لمعرفة مدى تأثير دوائر الشر في كل من أميركا وإسرائيل على مقررات القمم العربية وعلى الجامعة العربية وعلى مجمل المؤسسات العربية. ولم تفلح كل المحاولات والاتصالات التي قام بها كل من أمين الجامعة العربية آنذاك عمرو موسى ووزراء خارجية كل من السعودية والإمارات وقطر وحتى الفلسطيني نفسه مع وزير خارجية أميركا آنذاك كولن باول للضغط على رئيس القمة الرئيس اللبناني إميل لحود، وبقي متمسكاً بمبدأ إقرار حق العودة في المبادرة، وكان للرئيس إميل لحود ما أراد، حينها تم إقرار المبادرة السعودية التي سميت عربية، وبالصيغة التي تضمن حق العودة كما أرادها الرئيس المقاوم إميل لحود.
ومن المهم الآن أن نقول: إن الرفض الذي قابلت به إسرائيل تلك المبادرة لم يكن ناجماً عن عدم معرفتها بها أو عدم التنسيق مع الرياض قبيل إعلانها، وإنما كان ناجماً من أن تل أبيب كانت ترى أن من شأن اعترافها بتلك المبادرة أن يؤدي إلى الاعتراف بالدور والثقل السعوديين، وهي، أي إسرائيل، ترى أن هناك المزيد مما هو مطلوب، ويتوجب فعله، من الرياض قبيل أن تحظى بذاك الاعتراف.
وفي خلال المرحلة اللاحقة جهدت الرياض في فعل ما هو مطلوب منها بدءاً من الموقف من عدوان تموز 2006، مروراً بحشد القوى والإغراءات لإسقاط اتفاق فيينا 2015 الذي أنهى أزمة الملف النووي الإيراني، وصولاً إلى وضع حزب الله، وقبله حماس، على لوائح إرهابها ثم على لوائح الجامعة العربية، وانتهاءً بنجاحها الجزئي في جعل الصراع العربي الإيراني محور الصراع في المنطقة.
واليوم، بعد سنوات على إقرار المبادرة العربية تكشف المملكة السعودية صاحبة المبادرة العربية، عن تآمرها على فلسطين حين قبلت بشطب حق العودة من المبادرة، كما أنها لم تعد تطالب بإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس بل بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، أي اقتسام الحق العربي والإسلامي والمسيحي في مدينة القدس مع إسرائيل.
فالسعودية إلى جانب دورها المحوري في التآمر على العراق وغزوه واحتلاله وتدمير جيشه في سياق خدمة الأمن الاستراتيجي للكيان الصهيوني، وقفت إلى جانب العدو الصهيوني في حرب تموز 2006، حيث أصدرت بياناً حمّلت فيه حزب الله مسؤولية الحرب ''وعليه أن يتحمل وحده مسؤولية مغامراته''، كما ضغطت الرياض باتجاه تأجيل النظر في تقرير غولدستون في محاولة لإنقاذ إسرائيل من محاكمتها على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في حربها على غزة سنة 2008 ـ 2009 وإشعال فتنة فلسطينية ـ فلسطينية، وصولاً إلى التآمر على سورية ومحاولة عرقنتها وتدمير جيشها حماية لأمن إسرائيل وبغية تصفية القضية الفلسطينية، ذلك أنّ الرياض لا تتبنى عملياً المبادرة التي أطلقها ملكها وولي عهدها في قمة فاس 1982 وبيروت 2002، بل تتبنى وجهة نظر ''بندر بن سلطان'' منذ كان سفيراً للرياض في واشنطن التي تتماهى مع وجهة النظر الإسرائيلية، أي إقامة اتحاد كونفيدرالي بين الأردن وفلسطين ينتهي إلى أن الأردن، وهو الوطن النهائي للفلسطينيين.
وبعد خروج العراق من النظام الإقليمي العربي، ومحاولات فرض عزلة على سوريا نتيجة الضغوط الخارجية عليها، وتراجع الدور المصري في القضية الفلسطينية، وتحول مصر إلى وسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأخيراً بين الفلسطينيين أنفسهم. أدى هذا لبروز الدور السعودي في المنطقة في عهد الملك عبد الله، دون أن يكون ذا أثر فاعل بما يؤدي إلى تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني التاريخية في أرضه، ولم يتعد الدور السعودي أكثر من ظاهرة صوتية، ودفق الأموال في فترات محددة لتبرز كدور راع للسلام، رغم قدرتها فيما لو أرادت لتغير وجه الصراع العربي ـ الإسرائيلي لصالح العرب، فيما لو استخدمت النفط كسلاح سياسي.
ونسأل آل سعود وعرابهم بن سلمان، ماذا تريد السعودية من الفلسطينيين...؟ أن يستسلم الفلسطينيون... أن يتنازلوا عن حق العودة... أن يكسروا مفاتيح الذكرى... أن يزحفوا على بطونهم طالبين الصفح من قاتليهم... أن يقبلوا بتنفيذ المخطط الأمريكي عبر المشروع الجديد للمنطقة المسمى ''صفقة القرن''... حيث إن إدارة ترامب سلمت النظام السعودي النسخة النهائية منها. وهذا متوقع وطبيعي في ظل أن بني سعود مكلفون بالتنفيذ والتمويل. الصفقة التي تعيد رسم خرائط الشرق الأوسط وفق رؤية أميركية إسرائيلية. حيث تنقسم فلسطين إلى أكثر من جزء بخلاف المساحة التي أقيمت عليها ما يسمى بإسرائيل، فهناك وفقاً لهذه الخطة الجزء المتبقي من الضفة الغربية، بالإضافة إلى قطاع غزة والجزء المخصص من أراضي شمال سيناء المقدرة بـ720 كيلومتراً مربعاً، وهذه التقسيمات يحكمها الانفصال ولا يربط بينها رابط، فالضفة لا ترتبط بغزة بأي منفذ أو معبر على الإطلاق وحركة حماس هي الجناح الفاعل والمسيطر على قطاع غزة، وطالما أنها ترفض هذه الخطة جملة وتفصيلا... فكيف سيكون امتداد غزة الديموغرافي في المساحة الجديدة من سيناء؟!
وكيف لمصر وشعبها العظيم أن يفرط في جزء أصيل من أراضيه التي ناضل من أجلها طوال العهود الماضية وذلك بمسوغ استبدال أرضه بأرض قاحلة في صحراء النقب مع ضخ بعض الأموال لتشكيل الصورة وتجميل وجه هذه الصفقة؟ وكيف للأردن القبول بمثل هذه الصفقة، وكيف ستقدم هذه الطبخة المالحة بل والمرة أيضا للرأي العام العربي؟! إن الشعب الفلسطيني قد عبر عن رفضه لتلك التسوية المشبوهة، وهو الأمر الذي يجعل من الصفقة فاشلة وغير قابلة للتطبيق. هذه هي الثوابت الوطنية ولا يمكن لأي رئيس عربي أن يوقع على صفقة القرن تحت أي ذرائع لأن الشعب الفلسطيني مصرّ على مشروعه الوطني وعلى استعادة حقوقه وإقامة دولته على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا التصميم والنضال الفلسطيني ترفده قرارات عربية ودولية منها قرارات الشرعية الدولية باعتبار إسرائيل كياناً محتلا للأراضي الفلسطينية، وثانياً هناك المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت العربية عام 2002 والتي تتحدث عن السلام العادل والشامل بين العرب والكيان الإسرائيلي من خلال إقامة الدولة الفلسطينية على أراضيها وهي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وأيضاً عودة اللاجئين وموضوع المياه.
والرفض الشعبي في أي صراع سياسي هو الذي يحسم الأمور، والشعب الفلسطيني يناضل أكثر من منذ 70 عاماً ولا يمكن أن يفرط في ثوابته الوطنية مما يجعل محاولات واشنطن لرسم تسوية محددة لا تجدي مع ذلك الرفض الشعبي. وعلى ضوء تلك المحددات وهي الرفض الشعبي وقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام، سوف تبقى صفقة القرن مجرد محاولة يائسة كما حدث في مؤتمر كامب ديفيد في عهد الرئيس كلينتون وواي ريفر وغيرها من الجهود الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية .
الآن يبدو أن الرياض قد أنجزت المهام المطلوبة منها الأمر الذي يفسر استعداد تل أبيب للقبول بدور سعودي محوري لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، ومن المؤكد أن ترامب، وإن كان قد استند إلى العديد من الدوافع والمحفزات لاتخاذ قراره بنقل سفارة بلاده إلى القدس، إلا أن من بينها، بل من أهمها أيضاً، استناده إلى صمت الرباعية الخليجية المصرية الأردنية السعودية على حين المطلوب من هذي الأخيرة يرقى إلى تهيئة الأجواء السعودية الداخلية وكذا العربية، ألم يقل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إنه يريد إسلاماً وسطياً مبنياً على المحبة والتسامح؟ ثم ألم يقل إن الكثير من ممارسات بلاده السابقة كانت خاطئة وليست من الإسلام في شيء؟ وهل يمكن ألا نلمس ما وراء أكمة ذينك الرغبتين السلمانيتين؟
وأخيراً وليس آخر، بالرغم من كل ما حققته القوى الاستعمارية وذراعها السعودية المتآمرة على القضية الفلسطينية إلا أن أبناء فلسطين ورغم حاجتهم للدعم العربي إلا أنهم لا يعتمدون كثيراً على هذا الدعم، فهم يعلمون حقيقة قضيتهم ومصرون على مطالبهم وحقوقهم المشروعة، بدليل أن المكون الفلسطيني قارب أن يفوق المكون الصهيوني في الأراضي المحتلة رغم كل الجرائم في كافة الأراضي الفلسطينية، لكن الشعوب العربية هي التي تحتاج أن تعي أن ما يقدمه الفلسطينيون من دماء زكية وشهداء أبرار، ومعاناة يومية على كافة أصعدة الحياة، من سيحفظ الحقوق العربية ويمنع دولة الاحتلال من الانتقال إلى خطوتها التالية (من النيل إلى الفرات)، برغم التجاهل العربي لقضيتهم، وأقصد هنا التجاهل الشعبي العربي، فللمرة الأولى تنشغل العواصم الكبرى بمشاكلها، عن حتى إبداء التعاطف ضد ما يرتكبه كيان الاحتلال من مجازر ضد شعبنا الفلسطيني الأبي، ولم تخرج الشعوب بإدانة واضحة وخطوات حقيقية تمنع هذا المحتل الغاصب من مواصلة إرهابه.
*باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور