*مصطفى قطبي
نحن في الزمن المقلوب... في الزمن الذي يصير فيه المقاوم مداناً، ومتهماً حتى بعروبته وإسلامه وتحت الحصار والتضييق، وفي مواجهة حروب إعلامية أدواتها الكذب والتضليل، وفي الزمن الذي يصير فيه المستسلم الذليل بطلاً وناصحاً ومعتدل الرأي وناضج العقل والتفكير والموقف... في زمن يعود فيه أحفاد الاستعماريين لاستعمار العرب بإسم الحرية مرة وبإسم الإسلام مرة أخرى كما حدث من قبل، ولقرون. صدقوني إننا في زمن القناعات السعودية المصنّعة المطبوخة كأحذية البلاستيك الرخيصة المستعملة مرات ومرات لتعود مرة أخرى إلى الأسواق السياسية بضاعة جديدة.
في تصرف ليس له ما يبرره، غرد الأمير السعودي، عبد الرحمن بن مساعد، يوم الجمعة الماضي على صفحته الرسمية على ''تويتر'' مهاجما وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل بسبب الموقف اللبناني المدين لعملية اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني. وقال الأمير بن مساعد في تغريدته عن الوضع اللبناني ومسار تشكيل الحكومة اللبنانية: ''أن الحكومة اللبنانية القادمة هي حكومة حزب الله قولًا واحدًا''. وفي تغريدة أخرى، هاجم الأمير السعودي، وزارة الخارجية اللبنانية، والوزير جبران باسيل، متعمدًا تغيير إسم عائلة الأخير أكثر من مرة، من ''باسيل إلى ''باسيج''.
وحقيقة الأمر، أنّ النظام السعودي لم يكن في أي وقت، منذ قيامه إلى الآن بعيداً عن الموقفين الأمريكي والإسرائيلي فهذا التناغم قديم، وليس كما يراه بعضهم، تاريخيا... النظام السعودي، كان وسيظل في مواجهة أي مكوّن مقاوم لإسرائيل... فمنذ أن حقق حزب الله انتصاره الأول على الكيان الصهيوني، تصاعد خطاب النظام السعودي عدوانية على حزب الله، وبخاصة خلال العدوان الإسرائيلي في تموز عام 2006، إذ راح هذا النظام يتهم حزب الله بالمغامر، وشن سعود الفيصل حربا حادة على الحزب في الجامعة العربية والمحافل الدولية... وقام شيوخ الوهابية السعودية بتحريم الدعاء بالنصر لحزب الله على إسرائيل؟
ألم يقل هؤلاء إن اليهود أقرب إليهم من حزب الله الشيعي..؟! ألم يدفع النظام السعودي حلفاءه في لبنان للوقوف في وجه حزب الله، حتى أن بعضهم قدّم معلومات عن أماكن تواجد الحزب للعدو الإسرائيلي... وأن حكومة لبنان آنذاك التي كان يرأسها فؤاد السنيورة، طالبت أمريكا بإطالة زمن العدوان لعل جيش العدو يهزم المقاومة، ويتجه نحو دمشق لتوسيع رقعة الحرب وإسقاط الدولة السورية... ألم يدفع النظام السعودي بحلفائه إلى المطالبة بتجريد حزب الله من سلاحه..؟! أليست المطالبة بنزع سلاح حزب الله مطلباً أمريكياً إسرائيلياً؟!
ولعل أبسط رصد أو تحليل لردود الفعل السعودية بعد عملية اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني، سوف تثبت أنها ليست بريئة ولا مرتجلة أو عشوائية أو انفعالية، بل تفوح من جنباتها روائح تآمرية كريهة تشي بأنها مدبرة بليل، ومخططة بدقة، ومعدة في الغرف المغلقة، ومرسومة سلفاً ومع سبق الاصرار والتعمد... فليس من قبيل الصدفة أن يجتمع مرتزقة الإعلام السعودي وبعض الساسة والأمراء... وفيما يشبه الاوركسترا الشديدة التناغم والانسجام، على أمر واحد محدد هو تقزيم المقاومة العربية وتسفيهها ومحاولة إذلالها وتدمير هيبتها وشعبيتها، سواء كانت فلسطينية أو لبنانية... شيعية أو سنية... فاعلة أو خاملة.
لا أعلم لماذا أذهب إلى حدود الاتهام، وربما التخوين، كلما استمعت للإعلام السعودي أو لسياسي سعودي يخطب بجمهوره مغيّباً إسرائيل والغرب المتحالف مع حركات التطرف والإرهاب، ومتحاملاً على إيران و المقاومة الوطنية اللبنانية... ودائماً تتوافر منظومة سياسية وإعلامية خليجية مهمتها الرد على الاعتداءات الأمريكية من خلال ''الهجوم'' على المقاومة بأكبر كمّ من الاتهامات... ومحاولة ''مسخ'' أي فعل مقاوم يستند إلى لغة النار بالنار...، كي تبدأ من جديد الفرجة على إسرائيل وهي تسعى جاهدة لتحقيق حلمها كـ''دولة يهودية صرفة'' مستخدمة العنف والنّار...
فالغضب العارم والإدانة والاستنكار بإقدام الإدارة الأمريكية على عملية اغتيال الشهيدين الحاج أبي مهدي المهندس والحاج قاسم سليماني وشخصيات عراقية وإيرانية أخرى، دليل على أن الشهيدين كانا رمزين كبيرين في تحقيق النصر بدول عربية وإسلامية... ودليل آخر على مؤشر كبير إلى تمسك الشعوب العربية الحرة والإسلامية الحقة، بخيار المقاومة، وهو فرز واضح بين المناهضين للاحتلال الصهيوني ومشاريع أمريكا العدوانية، وبين السائرين خلف الصهيوـ أمريكي من فاقدي البصر والبصيرة منعدمي التمييز بين المقاومة ورسالتها الأخلاقية والإنسانية، وبين أطراف العدوان بوحشيتهم التي تفتك بالروح الإنسانية والصورة البشرية.
لكن الشاذ عند حكام السعودية، هو ضرب مبدأ المقاومة وفكرتها ومفهومها وفلسفتها في العقل العربي، واعتبارها عبثاً لا طائل تحته ولا نفع فيه، وإهالة التراب على فادتها وفصائلها وأسلحتها بوصفها جزءاً من الماضي الذي مضى وانقضى، شأنها في ذلك شأن معظم الجيوش العربية التي تقاعدت أو تفككت أو انهمكت في ملاحقة الأزمات الداخلية والحروب الأهلية.
وكم هو موجع ومفجع أن تنشغل فضائيات الفتنة، وإعلام التضليل والتغفيل وتلبيس الطواقي في محاربة المقاومة الإسلامية، أو الإسلام المقاوم الذي يتكرس بالكامل لمحاربة الاستكبار الأمريكي والاحتلال الصهيوني... مقابل التطبيل والتبجيل للإسلام الوهابي التكفيري الذي لا يجد نفسه، أو يفعل أفاعيله، أو يرفع رايات جهاده، أو يحشد جماعاته وعصاباته، إلا في ديار العرب، وفوق تراب لبنان ومصر واليمن وسوريا وليبيا والعراق... تاركاً لإسرائيل الليكودية والتلمودية، أن تهود القدس، وتصادر الأقصى، وتبتلع الأراضي الفلسطينية تدريجياً وعلى مهل وبالتقسيط المريح !
تقف اليوم مملكة بني سعود في رأس الطابور العامل على مذهبة الصراع في المنطقة، لتمزيق وحدة صف مقاومي غطرسة أمريكا وصلف إسرائيل ومذهبة إيران ! وهذا ما يعزز مصداقية إيران وحزب الله معاً، حسب المعيار الفلسطيني المقاوم الذي لا يساوم في التمييز بين العدو والصديق. ولذلك انتشرت في فلسطين المحتلة خيم العزاء باستشهاد قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني التي أقامها أهلنا في الأرض المغتصبة، بمختلف طوائفهم. أي إن قاسم سليماني، أسمى من المذهبة والطائفية والقطرية والعصبية القومية الشوفينية.
نشير هنا إلى أن بيتا مصرياً وسورياً وفلسطينياً وعراقياً ولبنانياً ويمنياً... لا يخلو من شهيد أو جريح أو أسير في صراع العرب مع المشروع الصهيوني منذ نحو القرن. أما العائلة المالكة المستبدة بالسعودية، فلم تقدم شهيداً في فلسطين طوال قرن انصرم، لأنها غير معنية باغتصاب فلسطين بل بـ''تمكين اليهود المساكين من الهجرة إليها''، حسب تعبير الملك المؤسس للانحياز إلى جانب الولايات المتحدة و''إسرائيلها'' ضد العرب والفلسطينيين بخاصة. ولذلك تصنف واشنطن والرياض معاً الشهيد القائد ''قاسم سليماني'' بأنه ''إرهابي'' !
إن الجميع يدرك قيمة النجم ''قاسم سليماني'' الذي غاب عن دنيانا لكنه لم يسقط. فقاسم باق في البصائر، وإن افتقدته الأبصار، شأنه في ذلك شأن بقية الرموز التي يتكون منها ''بنك الأهداف'' التي يعمل على تصفيتها، أو تتم تصفيتها بيد أمريكا والموساد، المنزرعين خلف خطوط العرب، ويعملون لمصلحة إسرائيل. فأحرار العالم يعرفون كفاءة وشجاعة وإيمان الشهيد ''قاسم سليماني'' الذي قل نظيره بحقوق الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية عموماً، عبر رفض الخضوع لإرادة أمريكية ورجعية متآمرة على المقدّسات الإسلامية في فلسطين وعلى العروبة والإسلام. ولم ينل سليماني، هذه المكانة والصفة بقرار سياسي سعودي أو خليجي، ولم يكن في يوم من الأيام بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من أحد. وإذا كانت أموال المملكة السعودية قادرة على شراء ذمم بعض الساسة والكتاب والإعلاميين وتجار الدين والسياسة، فإنها بالتأكيد غير قادرة على شراء أو مصادرة ضمائر الناس ومشاعرهم وتغييب وعيهم...
إنّ استهداف المقاومة ومحورها لم يكن مسألة جديدة وإنما كان هدفاً ثابتاً للكيان الصهيوني الذي تأتمر بأوامره الولايات المتحدة الأمريكية، والقوى الاستعمارية وحلفائها في المنطقة، وإذا كانت أشكال الاستهداف أخذت وتأخذ أشكالا متعددة من عسكرية إلى استخباراتية إلى إعلامية، ولكن أن تصل إلى هذه الدرجة من الحقد والاستهتار بمشاعر أبناء الأمة وجماهير واسعة على الساحة العربية والإقليمية والدولية... فهذه مسألة يجب الوقوف عندها كثيرا بهدف كشف أسبابها ودوافعها وأهدافها البعيدة والقريبة وعدم التعامل معها على أنها مسألة طارئة وردة فعل سعودية خليجية بقدر ما هي في جوهرها مطلب ورغبة إسرائيلية أمريكية.
إن مشروع أميركا مع الحلف الرجعي- الوهابي- العثماني – سقط في المنطقة من خلال دماء آلاف الشهداء والضحايا، وليتذكر الجميع الهزيمة في العراق، وجنوب لبنان وغزة، وأخيراً في الحرب القذرة على سورية واليمن. والمرارة التي يشعر بها حلفاء واشنطن بدأت تنعكس في تحالفات واضحة كانت سرية، فتحولت إلى علنية بين مضارب النفط والغاز في الخليج والكيان الصهيوني، فلم يعد أصحاب السمو- والجلالة- والنذالة يخفون تحالفهم مع أبناء عمومتهم في إسرائيل، ويظهرون معهم عبر الفيديو- مؤتمر، أو من خلال تقاسم السرير في المصلحة والأهداف...
لقد بات الفرز واضحاً بين الحلف الرجعي المتخلف الذي يملك النفط ورأس المال، وحلف المقاومة الوطنية الذي يملك قوة الإيمان والإرادة في التصدي للمشروعات الاستعمارية الراهنة وموجة حروب ما بعد الحداثة التي تفبرك الأكاذيب وتضيع الحقائق بغرض الهيمنة عبر بوارجها الإعلامية وحربها النفسية وحصارها الاقتصادي في آن معاً، ولقد اكتشف العراقيون والإيرانيون والسوريون وأشقاؤهم وحلفاؤهم المستهدفون مبكراً قواعد اللعبة الجديدة، ولم تعد تخدعهم ترّهات آل سعود وعاصفة حزمهم الآيلة إلى الخسران ومناورات رعدهم الخلّبيّ وسراب سلطانهم الجائر، ومهما حشدوا من مرتزقة وطبالين وإعلاميين، وتآمروا على إيران وسوريا والعراق واليمن ولبنان... فلن يحصدوا في النهاية سوى رياح هزيمتهم، ذلك ما تؤكده الدماء الزكية التي لا تزال تبذل دفاعاً عن وحدة التراب والشعب والقرار العربي المستقل.
فلا يظنن أحد أن محور المقاومة مختزل في دول أربع، بل هو كامن في نفوس جماهير الأمة، وهو حيّ ويقظ في الشارع العربي. ولن يطُل الزمن الذي سينتفض فيه الشعب العربي على أنظمته المتخاذلة ويقف مع محور المقاومة، ولن يسكت هذا الشعب وهو يخسر مصالحه وحقوقه وتطلعاته وقضاياه الوطنية والقومية والإنسانية مع هكذا أنظمة تبيع الكرامة والسيادة، وتستمرىء الذل والمهانة أمام نذالة البترودولار تجاه القدس وصنافير وتيران وصفقة الغاز الإسرائيلية مع مصر وما يجري في سورية واليمن…
في الشارع العربي قلق وضياع واستلاب لن يطول أمام الافتراء على فضائل محور المقاومة ومنجزاته، وفي هذا الشارع شعور بالحاجة إلى حركة تحرر عربي جديدة ومغايرة تناسب التصدي للجيل الرابع من الحروب التي تسلّط شراً على حاضره ومستقبله. هذا الشارع وأصدقاؤه من أحرار العالم وشرفائه باتوا يدركون جيداً كيف سقطت الأقنعة عن وحوش العصر، ولماذا تتوجه الأنياب والمخالب الدول الممانعة والمقاومة، وسيدرك الجميع أن المقاومة سبيلاً ودليلاً ونهجاً وثقافة هي العروبة وهي الإسلام التاريخي المحمّدي، وهي أكبر من الافتراء عليها بالتطييف والمذهبة، والتضييق عليها بمحور أو ''هلال''، ومن حرف التناقض المصيري مع المشروع الصهيوأطلسي – الرجعي العربي إلى التناقض معها.
المسيرة طويلة، والتاريخ لا يرحم، وقبل فوات الأوان صارت أبرز الكلمات المطلوبة في هذا الواقع المؤلم والمظلم. ولأننا نعرف أن الوحدة قد شطبت من سماء الأمة لأسباب داخلية وخارجية، فليس هنالك سوى تسوية إلا خيار المقاومة وإلا ستكون الشعوب عراة في يوم حار ممددة على الاسلفت تنتظر الرحمة من أمراء الحرب والمال لنعيش المستقبل ذلك المستقبل الذي لن يصنعه إلا نحن لأجيال قادمة من حقها العيش بكرامة، أما الذين يتبجحون ليل نهار عن ''الثورات'' و''الربيع العربي'' المزعوم ليس لهم إلا فنادقهم التي يبيتون فيها، فالحرية لا تأتي على ظهر دبابة ''إسرائيلية أو أمريكية كما يدعون... والكرامة العربية ليست بطاقة تهنئة يرسلها فرد أو حزب للكيان الصهيوني يهنىء فيها أحفاد عصابات الهاغانا بالاستقلال كما تفعل بعض المعارضات العربية الخائنة.
فالقرارات دائماً تكتب بحبر أو على أجهزة الكومبيوتر، أما العقل فهو للميدان المتصل بشوارع وساحات الأوطان والشعوب التي لم تعد تزعجها التسميات والصفات والشتائم التي تعبر عن الجهات التي صدرت عنها وعن الضيق والغضب أمام فشل كل محاولات القضاء على المقاومة.
كلمة أخيرة: خيار المقاومة هو خيارنا ليس لأننا طلاب حرب إنما لأننا مدافعون عن الحق شعار حق البقاء وحق العيش وحق الحياة... لهذا هو خيارنا... وسيبقى خيارنا فنحن أصحاب هذه الأرض وعليها ومن أجلها سنموت...
*باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور