*مصطفى قطبي
لا يمكن لأي مواطن عربي حر وشريف، في الذكرى الواحد والأربعين سنة بعد قيام الثورة الإيرانية إلا أن ينظر بعين الإعجاب والاحترام لما حققته الثورة خلال العقود الماضية، والأهم من ذلك تطوير منجزاتها. فأغلب المحللين والمراقبين والمتابعين للشأن الإيراني يجمع على أن مسيرة الثورة الإسلامية في إيران التي أكملت عامها الواحد والأربعين سنة، لم تكن معبدة بالورود، بل على العكس تماماً، فقد واجهت الثورة ومنذ انطلاقتها صعوبات وتحديات كبيرة وخطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي كجزء من فاتورة المواقف السياسية الجريئة والشجاعة التي تبنتها الجمهورية الإيرانية بشأن قضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني وما يتصل بذلك من دعم وتأييد لحركات المقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
بعد واحد وأربعين سنة من عمر إيران الإسلامية ثمة تبدلات جمة أحدثتها في السياسة الدولية العالمية... ليس جديدا القول أن المتغير الإيراني أوجد حراكاً في منطقة الخليج، ثم في منطقة الشرق الأوسط، وأعطى مكانة لمشروعه السياسي الذي كانت وجهته إسرائيل وشعاره زحفاً نحو القدس، وقد فهم الإسرائيلي ذلك الموقف منذ لحظاته الأولى، وتعمق في حروبه المتواصلة مع حزب الله وتم تثبيت الفكرة نهائياً بعد حرب العام 2006. كانت الثورة الإيرانية بمثابة زلزال لم تتوقف ارتداداته في محيطه خصوصاً والعالم عموماً الذي جاهر إلى جانب الولايات المتحدة وماشاها في خياراتها إزاءه... وحين انعدمت الوسائل لم يكن هنالك بد من خيار تغيير الأسلوب الغربي معها، خصوصاً عندما ثبت لهذا الغرب أن إيران النووية ليست إلا من أجل التكنولوجيا، وأنها لو أرادت سلاحاً نوويًّا لاشترته من السوق الذي كادت فيه الفوضى قد ضربت ضربتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أو ربما من خلال تجربة كوريا الشمالية.
فعلى الصعيد الداخلي أسقطت الثورة أكبر عرش امبراطوري وأقوى قلعة أميركية ممثلة بنظام الشاه فتحولت إيران من قوة بيد الغرب لتطويع شعوب المنطقة وخدمة الكيان الصهيوني إلى قوة بمواجهة الغرب والكيان الصهيوني ما أدى إلى تغيير المعادلة الاستراتيجية في المنطقة وقواعد اللعبة وتحول في خرائطها السياسية، ولعل تحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة لفلسطين هو أحد أهم مظاهر تحديد هوية النظام الجديد وتموضعه السياسي والأيديولوجي علماً أن ما ميّز الثورة الإسلامية هو استقلاليتها في إطار الاصطفاف الدولي الذي كان سائدا إبان الحرب الباردة فالمعروف أن لقائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني يرحمه الله رؤية بالشيوعية من جهة والنظام الرأسمالي الغربي فقال: إن الشيوعية ستوضع في متحف التاريخ وهو ما حصل بعد أقل من عقد من الزمن. وكذلك نهاية نظام الاستكبار العالمي وهو ما تواجهه العولمة المتوحشة منذ عدة سنوات.
لقد اعتمدت الثورة الإسلامية العلم والمعرفة نهجاً لها في بناء الداخل فعملت على توطين التقانة والمعرفة بالاعتماد على الذات فجسرت الفارق الحضاري والتقاني والمعرفي مع الغرب وهذا ما أقض مضاجعه وهو المسكون بنزعة التفوق والمركزية الحضارية الأوروبية وأصبحت إيران من أهم عشر دول في العالم في مجال الاختراعات العلمية المسجلة وبراءاتها. كما أعادت الروح لحركات التحرر العالمية بمواجهة الاستكبار العالمي وشكلت ظهيراً للمظلومين في كل أنحاء العالم وأثبتت بذلك أن الإسلام دين عالمي ويتعامل مع كل البشر على أنهم متساوون في الخَلق والخٌلق والحياة الحرة الكريمة مكرسة مقولة متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
الثورة الإسلامية الإيرانية حسمت هويتها في تحديد العدو من الصديق فكان الكيان الصهيوني عدوها الأول وشكلت تهديداً حقيقاً وهاجساً له ما أفقده توازنه وشكل له قلقاً وخوفاً وصداعاً دائماً ولعل فوبيا البرنامج النووي الإيراني ستبقى كابوساً يسيطر على تفكير قياداته العسكرية والسياسية إلى أن يزول ذلك الكيان السرطاني كما وصفه قائد الثورة الإسلامية. إيران من خلال التواصل العربي أكدت أنها ليست الخطر الذي يخشاه سكان الشاطئ الآخر بل هي الجار المسالم وهي كما شقيقاتها في المنطقة المدافع الحقيقي عن حياض المنطقة ومياهها وأن الحضور الأجنبي الكثيف دفعنا ثمنه باهظاً وأدى إلى استنزاف أموال وطاقات دول المنطقة بأسرها ولم يحقق الأمن والاستقرار بل زرع المزيد من التوتر والاضطراب. وفي إطار علاقتها مع دول الجوار العربي انطلقت الثورة من نظرة كلية جامعة وليس من منظور طائفي أو مذهبي كما يحلو للمغرضين والشامتين والحاقدين تسويقه بهدف إثارة الفتن بين المسلمين لشق صفوفهم وتفريق كلمتهم وحرف بوصلتهم التي يجب أن تكون باتجاه فلسطين وبيت المقدس.
ومن باب تأكيد المؤكد، ليس هناك من ثورة حوربت وحوصرت واشتدت الضغوط لـ''إسقاطها'' منذ اللحظة الأولى لقيامها مثلما جرى مع الثورة الإسلامية في إيران، ولولا امتلاك هذه الثورة مقومات الحياة والقدرة على البقاء لتم وأدها ولما استمرت طوال هذه السنوات الواحد والأربعين بقوة مذهلة وإنجازات مبهرة رغم حجم التحديات التي واجهتها ومازالت مستمرة بتصاعد رهيب في الوقت الراهن من خلال استهداف إدارة ترامب وممارساتها الأكثر عدوانية وحقداً، والعلامة الفارقة لهذه الثورة أنه كلما اشتد عليها الحصار وتفاقم الخطر ازدادت نهوضاً وقدرة على المواجهة وكسر الأطواق من حولها بنجاحات عسكرية وعلمية وتنموية تشبه المعجزات.
أمريكا تحاول منذ عام 1979 كسر إرادة إيران وتدمير النظام السياسي الذي تبلور بعد سقوط شاه إيران. منذ ذلك الحين وأمريكا تتعاون مع الصهاينة وبعض البلدان العربية لحبك المؤامرات والدسائس ضد الثورة الاسلامية والتهديد بالحرب أو شن الحرب عليها، كما حصل إبان عهد صدام حسين. وللأسف الشديد، فقد خلق الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية عداء بين بعض العرب وإيران وعلى هذا قامت الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات أكلت خلالها الأخضر واليابس واستنزفت طاقات وإمكانيات البلدين وذلك تحت لافتة أميركية غربية صهيونية، أن إيران تنوي تصدير الثورة، لذلك تم تحريض العراق على المطالبة بعربستان وكان الأمر منسيا في زمن الشاه رجل أميركا الأول في المنطقة.
في هذا السياق أيضاً تمت مطالبة الإمارات العربية المتحدة بالجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى علما أن هذا الأمر كسابقه كان مسكوتاً عنه قبل الثورة وذلك لتمكين واستحكام واستفحال العداء بين إيران ودول الجوار. والحق أن كل الدول تفكر بمصالحها بالدرجة الأولى وإيران ليست نشازاً عن ذلك ولكن مقولة محاولة إيران تصدير الثورة فيه الكثير من المغالطات، ولعل الوجه الصحيح لهذه المقولة هو توجه السياسة الإيرانية نحو الدول التي تتلاقى مع إستراتيجيها وتكتيكها اللذين رفعتهما الثورة الإسلامية منذ انتصارها وهو ما يتمثل بمواجهة النفوذ الأميركي ومواجهة الغطرسة والعدوان الإسرائيلي.
وقد يقول قائل: إن إيران دعمت وتدعم الحوثيين في اليمن، وهذا في الواقع أمر طبيعي وسياسة مبدئية وذلك لتطويق الخيانة التي تمثلها سياسة المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج للقضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية وارتضاء حكام هذه الدول بأن يكونوا مطية للسياسات الأميركية التي تناصب إيران العداء. نعم الهدف الإيراني هو إقامة أفضل العلاقات مع دول الجوار ولكن الشرط اللازم لتحقيق هذا الهدف هو أن يتشاطر ويتلاقى مع التوجه ذاته من دول الجوار وأي خلل في طرفي المعادلة يعني أن تحل القطيعة بدل الوصال إن لم نقل العداوة مكان الصلح والتصالح.
إن اللوم لا يجب أن ينصب على إيران ولكن اللوم والعتب يجب أن ينصب على من يناصب إيران العداء لأن التوجه القومي العروبي والإسلامي الصحيح هو في مواجهة السياسة الأميركية في المنطقة ومجابهة التمدد والاعتداءات الإسرائيلية على الدول العربية، وعلى كل حال تجارب التاريخ القريبة والبعيدة تؤكد أن الصلح خير من العداوة وأن التلاقي والتقارب خير من التباغض والتنافر والتباعد وأن السلم خير من الحرب لمن يمكن أن يفعل ذلك من دول الجوار وطبعاً إسرائيل مستثناة من هذا الكلام لأنها قامت وتقوم على الاغتصاب والاحتلال والعدوان ومازال شعار الكنيست حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل ومازال النشيد الوطني الإسرائيلي يحرض على قتل العرب.
الحرب على إيران فشلت، والعقوبات التي فرضتها أمريكا لم تحقق النتائج المطلوبة والمؤامرات من بعض العرب عليها لم تتكلل بأي نجاح، وكان من المفروض أن يتعلم الأمريكيون وبعض عملائهم العرب أن مختلف سياساتهم ضد إيران رفعت من صلابة القيادة الإيرانية وتماسكها، لكن الأمريكيين لم يتعلموا الدروس ولا يريدون أن يتعلموا، ويلجؤون من جديد إلى العقوبات تارة والتهديد بالحرب تارة أخرى وتجفيف مصادر الدخل المالي... نعم الأمريكيون عادة يفكرون بعضلاتهم وليسوا بعقولهم... أما عملاؤهم من بعض العرب فلا يفكرون، وعادة تقودهم أحقادهم ولهذا من الصعب أن يحرز الطرفان الحليفان نجاحاً في محاولاتهم لتحجيم إيران أو عزلها... أو تغيير نظامها السياسي إلى نظام يعمل شرطياً أمريكياً مثل البعض من عربان الخليج.
نعم من أبرز الأسباب التي أفشلت المساعي الأمريكية في تحقيق غاياتها تنوع الاقتصاد الإيراني وعدم اقتصاره على جانب من دون آخر، فكما هو واضح فإن العقوبات تستهدف بالدرجة الأولى النفط وعائداته بينما إيران لا تعتمد على نحوٍ كامل على النفط بل إن لديها قائمة طويلة من المنتجات المحلية بما فيها الصناعية واليدوية والأهم من ذلك أن الشعب الإيراني سبق وأن واجه مثل هذه العقوبات وأقسى منها ولم تستطع تغييره وتالياً، فإن الشعب والقيادة الإيرانية يمتلكان تجارب سابقة يمكن توظيفها لتجاوز العقوبات الحالية.
لا يمكن أن يختلف إثنان أو يتناطح عنزان، أنه في ظل الثورة فقد تحولت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى قوة عظمى إقليمية بفضل النهج الوطني المستقل الذي اتبعته في الداخل والخارج وكذلك تعاضد وتلاحم أبناء شعبها وتفاعله مع قيادته وانتهاجه العلم طريقاً للمستقبل وذلك بالاعتماد على طاقات أبناء شعبها وعلى إمكانياتها الذاتية وتوطينها العلم والمعرفة واتباعها الحوكمة الاقتصادية والحكم الرشيد ما جعل من التجربة الإيرانية في استثمار الطاقات الوطنية والاعتماد على الذات نموذجاً يمكن الاستفادة منه على الصعيد الدولي.
إن الثورة الإيرانية ثورة تستحق التقدير لأنها نهضت بإيران كدولة عظمى، وحافظت على الأهداف التي قامت من أجلها بل وزادت من عناصر القوة الإيرانية، وسلكت نهج التطور الذي يلائم عاداتها وتقاليدها ويدفع عنها تهمة الانغلاق، فلم تنجذب باتجاه الغرب بما يلغي حضارتها، وحافظت على وجودها وكينونتها، وقدمت مثالاً عصرياً لما يمكن أن تفعله أي ثورة إنسانية في العالم. وهذه الثورة الإيرانية التي عرفت كيف تسقط الرهانات السابقة الواحد تلو الآخر قادرة وتعرف كيف تسقط الرهان الجديد الأكثر لؤماً وحقداً القائم على مذهبة الصراع في المنطقة وتطويق إيران وإغراقها بالفتنة الطائفية والمذهبية ويستبدل بالصراع الأساس العربي ـ الإسرائيلي صراعاً مصطنعاً مع إيران بوساطة تيار تكفيري وهابي ظلامي هائج يعتمد على تحريك غرائز الإجرام والبغضاء واستئصال الآخر...
خلاصة الكلام: إن هذه الثورة المباركة التي غيرت وجه إيران والعالم ما كانت لتنتصر لولا اجتماع الأضلاع الثلاثة للمثلث الذهبي القائد والشعب والعقيدة... إيران في الساحة الدولية ليست خزان نفط وغاز كما هو حال البعض في المنطقة؛ وليست ملفاً نووياً مفتوحاً إلى ما لا نهاية، إيران دولة باتت في صف الدول الأُوَل عالمياً؛ وهي قوة علمية عسكرية اقتصادية مؤثرة؛ وهي رقم سياسي دولي فاعل؛ وهي خط ثوري لا ينحرف؛ وهي نصير لفلسطين لا يهادن؛ وهي ظهير لقضايا العرب والمسلمين لا يلين؛ وقبل هذا وذاك هي دولة راسخة لها مشروعها التنموي العاقل؛ ولها طموحها الإعماري والحضاري الحكيم؛ ولديها من الصلابة ما يجعلها ثابتة على المبدأ وعصية على الأخذ والتهديد.
بريد المحور