الثامن من شهر شوال يصادف ذكرى مريرة على قلوب أحبة أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، ألا وهو يوم ذكرى هدم قبور أئمة البقيع (عليهم السلام) على أيدي الطغاة الذين لم يراعوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبرزت هذه الذكرى عبر مواقع التواصل الاجتماعي حيث ندد المغردون بجرائم آل سعود والوهابيين .
البقيع الغرقد سبب التسمية
أصل البقيع في اللغة: الموضع الذي فيه أُرم الشجر من ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد، والغرقد: كبار العوسج، فلذا سُمّي ببقيع الغرقد لأن هذا النوع من الشجر كان كثيراً فيه، ولكنه قُطع.
يقول الدكتور محمّد البكري الذي شارك في تأليف كتاب بقيع الغرقد: «إن النبيّ خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثاً عن مكان يدفن فيه أصحابه، حتى جاء البقيع وقال: أمرتُ بهذا الموضع، وكان شجر الغرقد كثيراً فسُميت به».
أول من دُفن بالبقيع الغرقد
قيل: كان البقيع مقبرة قبل الإسلام، وورد ذكره في مرثية عمرو بن النعمان البياضي لقومه:
أين الذين عهدتهم فـي غبـطـة * بين العقيق إلى بقيع الغــرقــد
إلا أنه بعد الإسلام خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، وكان اليهود يدفنون موتاهم في مكان آخر يعرف بـ (حش كوكب)، وهو بستان يقع جنوب شرقي البقيع.
وأول من دُفن فيه من المسلمين هو أسعد بن زرارة الأنصاري، وكان من الأنصار، ثم دفن بعده الصحابي الجليل عثمان بن مضعون، وهو أول من دُفن فيه من المسلمين المهاجرين، وقد شارك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في دفنه، ثم دفن إلى جانبه إبراهيم ابن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولذلك رغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن.
ابتدئ الدفن في جنة البقيع منذ زمان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفسه يعلّم على قبر المدفون بعلامة.
ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين وبأمر من العلماء، كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما.
الرسولُ (صلى الله عليه وآله) وإهتمامه بموتى البقيع الغرقد
هذه مقطوفات يذكرها أحد الكتّاب الشيعة من كتاب موسوعة العتبات المقدسة لأحد السنة المحققين:
أصبح البقيع في أرض المدينة المنورة مدفناً لعدد من عظماء المسلمين وأئمتهم وأعلام الأنصار والمهاجرين, وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقصد البقيع يؤمّه كلما مات أحد من الصحابة ليصلي عليه ويحضر دفنه، وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه.
وحدّث محمد بن عيسى بن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة الى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي الباب, فمرّ بي جعفر بن محمد ـ يعني الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ـ، فقال لي: أعن أثرٍ وقفت هاهنا؟ قلت: لا, قال: هذا موقف نبي الله (صلى الله عليه وآله) بالليل إذا جاء يستغفر لاهل البقيع.
لذلك كبر شأن البقيع وكثر رواده بقصد الدعاء والاستغفار أو التسلية, طبقاً للحديث الوارد: إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور، حتى أصبح ملتقى الجماعات, وأشبه ما يكون بالمنتدى والمجلس العام، والظاهر أنّ هذه المقبرة ظلّت عامرة بأضرحتها وابنيتها الضخمة والقبب القائمة على مدافن المشاهير والأعلام, حتى جاء ذلك اليوم الأسود!
لماذا هدم الوهابيون قبور البقيع الغرقد؟
يعتقد الوهابيون ـ على خلاف جمهور المسلمين ـ أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله، يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!
ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار، فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوباً والأحمر والخليج غرباً وشرقا.
ولقد انصبّ الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين طهّرهم الله من الرجس تطهيرا.
وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ـ ولكثرة ما بهما من آثار دينية ـ من أكثر المدن تعرضاً لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد. وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.
الوهابيون قدموا إلى تهديم قبور البقيع مرتين في التاريخ المشؤوم
الوهابيون وكما هو معروف قد ورثوا الحقد الدفين ضد الحضارة الاسلامية من اسلافهم الطغاة والخوارج الجهلاء، فكانوا المثال الصادق للجهل والظلم والفساد، فقاموا بتهديم قبور بقيع الغرقد مرتين:
الأولى عام 1220 هـ، كانت الجريمة التي لاتنسى عند قيام الدولة السعودية الأولى، حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع، وذلك عام 1220 هـ، وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءَها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فنيّ رائع، حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولّى خط الوهابيين لحينٍ من الوقت.
الثاني عام 1344هـ، حيث عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344هـ، وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة، وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار (عليهم السلام) وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوىً من وعّاظهم.
فاصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعاً صفصفا، لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.
كيف تمكن الوهابيون من تحقيق مآربهم في هدم البقيع الغرقد؟
بعدما استولى آلُ سعود على مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة وضواحيهما عام 1344 هـ، بدؤوا يفكّرون بوسيلة ودليل لهدم المراقد المقدّسة في البقيع، ومحو آثار أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة.
وخوفاً من غضب المسلمين في الحجاز وفي عامّة البلاد الإسلامية، وتبريراً لعملهم الإجرامي المُضمر في بواطنهم الفاسدة، استفتوا علماء المدينة المنوّرة حول حُرمة البناء على القبور، فكتبوا استفتاءً ذهب به قاضي قضاة الوهابيين سليمان بن بليهد مستفتياً علماء المدينة، فاجتمع مع العلماء أوّلاً وتباحث معهم، وتحت التهديد والترهيب وقع العلماء على جواب نُوّه عنه في الاستفتاء بحُرمة البناء على القبور، تأييداً لرأي الجماعة التي كتبت الاستفتاء.
واستناداً لهذا الجواب اعتبرت الحكومة السعودية ذلك مبرّراً مشروعاً لهدم قبور الصحابة والتابعين ـ وهي في الحقيقة إهانة لهم ولآل الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ، فتسارعت قوى الشرك والوهابيّة إلى هدم قبور آل الرسول (صلى الله عليه وآله) في الثامن من شوّال من نفس السنة ـ أي عام 1344 هـ ـ، فهدّموا قبور الأئمة الأطهار والصحابة في البقيع، وسوّوها بالأرض، وشوّهوا محاسنها، وتركوها معرضاً لوطئ الأقدام ودوس الكلاب والدواب، ونهبت كل ما كان في ذلك الحرم المقدّس من فرش وهدايا وآثار قيّمة وغيرها، وحَوّلت ذلك المزار المقدّس إلى أرضٍ موحشة مقفرة.
أول مابدؤوا به
وكانوا قد بدأوا في تهديم المشاهد والقبور والآثار الإسلامية في مكة والمدينة وغيرهما، ففي مكة دُمرت مقبرة المعلى، والبيت الذي ولد فيه الرسول (صلى الله عليه وآله).
أما ما يسمى بنكبة البقيع حيث لم يُبق الوهابيون حجراً على حجر، وهدموا المسجد المقام على قبر حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء ومسجد الزهراء (عليها السلام)، واستولوا على أملاك وخزائن حرم النبي (صلى الله عليه وآله)، وهُدمت قبور أهل البيت النبوي (عليه السلام)، والمزارات والأماكن المقدسة لمطلق المسلمين سنة وشيعة، فقد وصفها عون بن هاشم حين هجم الوهابيون على الطائف بقوله: رأيتُ الدم فيها يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجارية أظنها والله حمراء.
وكان ممن قُتل في هذه الهجمة التاريخية المشهورة ـ التي تدل في همجيتها على البعد البعيد للوهابية عن الإسلام ووجههم المزري والمشوه للإسلام ـ الشيخ الزواوي مفتي الشافعية وجماعة من بني شيبة (سدنة الكعبة).
هل أقر القرآن الكريم أمر البناء على القبورأم لا؟
وليت شعري أين كان علماء المدينة المنوّرة عن منع البناء على القبور؟ ووجوب هدمه قبل هذا التاريخ؟! ولماذا كانوا ساكتين عن البناء طيلة هذه القرون؟! من صدر الإسلام وما بعد الإسلام وإلى يومنا هذا!
ألم تكن قبور الشهداء والصحابة مبنيّ عليها؟ ألم تكن هذه الأماكن مزارات تاريخية موثّقة لأصحابها؟ مثل مكان مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ومولد فاطمة (عليها السلام) وقبر حوّاء أُم البشر والقبّة التي عليه، أين قبر حوّاء اليوم؟ ألم يكن وجوده تحفة نادرة يدلّ على موضع موت أوّل امرأة في البشرية؟ أين مسجد حمزة في المدينة ومزاره الذي كان؟ أين... وأين...؟؟؟
لو تتبعنا القرآن الكريم ـ كمسلمين ـ لرأينا أنّ القرآن الكريم يعظّم المؤمنين ويكرّمهم بالبناء على قبورهم، حيث كان هذا الأمر شائعاً بين الأمم التي سبقت ظهور الإسلام، فيحدّثنا القرآن الكريم عن أهل الكهف حينما اكتشف أمرهم بعد ثلاثمائة وتسع سنين بعد انتشار التوحيد وتغلبه على الكفر.
ومع ذلك نرى انقسام الناس إلى قسمين: قسم يقول: (ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا) تخليداً لذكراهم، وهؤلاء هم الكافرون، بينما نرى المؤمنين التي انتصرت إرادتهم فيما بعد يدعون إلى بناء المسجد على الكهف، كي يكون مركزاً لعبادة الله تعالى بجوار قبور أولئك الذين رفضوا عبادة غير الله.
فلو كان بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها علامة على الشرك، فلماذا صدر هذا الاقتراح من المؤمنين؟! ولماذا ذكر القرآن اقتراحهم دون نقد أو ردّ؟! أليس ذلك دليلاً على الجواز؟ (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) [الكهف: 21].
فهذا تقرير من القرآن الكريم على صحّة هذا الاقتراح ـ بناء المسجد ـ، ومن الثابت أنّ تقرير القرآن حجّة شرعية.
محطة للمتأملين
إن خفاء تاريخ البقيع والجهل بحاله للناشئة والشباب في هذه العصور المتأخرة, ناشئ من قلة المصادر أولاً, والتعتيم الإعلامي السعودي والغربي عليه، بحيث يقلل من أهميته أو تزول أهميته بالمرة.
روى الطبراني في الكبير ومحمد بن سنجر في مسنده وابن شبّة في أخبار المدينة عن أم قيس بنت محصن ـ وهي أخت عُكاشة ـ أنها خرجت مع النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى البقيع، فقال: يُحشر من هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وكأنّ وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، وأنا؟ فقال: وأنت، فقام آخر فقال: يا رسول الله، وأنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة، قال: قلت لها: لِمَ لم يقل للآخر؟ قالت: أراه كان منافقاً.
وروى ابن شبّة عن أبي موهبة مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: أهبَّني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من جوف الليل، فقال: إني أُمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي، فانطلقتُ معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنَ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلَتِ الفتنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم استغفر لهم طويلاً، ثم قال: يا أبا موهبة، إني قد أوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، فخُيرت بين ذلك وبين لقاء ربي ثم الجنة، قلت: بأبي وأمي، خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا موهبة، لقد اخترت لقاء ربي ثم الجنة. ثم رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فبدأ به وجعه الذي قبض فيه.