*مصطفى قطبي
ليس من قبيل المصادفة ذلك التجاهل الإعلامي المشبوه في معظم البلاد العربية لذكرى ثورة 23 تموز / يوليو التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والتي تمر في ظل حال عربية مضطربة تنحو بإتجاه تغييب الفكر القومي برمته والمضي نحو مسارات ضيقة عنوانها الطائفية والمذهبية والارتهان للغرب في كل تفاصيل ما يرسم للمستقبل العربي. فالتركيبة الحالية المسيطرة على الوضع العربي والمرتبطة عضويا بمصالح الغرب تصطدم بعمق مع الأفكار الوحدوية والتحررية التي جاءت بها ثورة يوليو، ولا تلتقي بالتأكيد مع نهج استقلال القرار السياسي وهدف التنمية المستقلة الذي انتهجته تلك الثورة.
إنها تركيبة عنوانها الارتهان للمشروع الأمريكي، والتعايش مع الحالة الإسرائيلية السرطانية، والقضاء على كل فكر عروبي تنويري ينتصر لقضايا العرب ويطمح لتحقيق مشروعهم النهضوي. لكن ثورة 23 تموز التي احتضنت القضية الفلسطينية ودعمت الثورة الجزائرية، وناصرت حركات التحرر الوطني العربية، وعملت على تحقيق الوحدة، وأطلقت مشاريع تنمية جبارة في مصر لا تزال ماثلة حتى اليوم بخيراتها وعطاءاتها للمصريين بدءاً بتأميم قناة السويس أحد مصادر الدخل الأولى للإقتصاد المصري وبناء السد العالي الذي أسهم في تحقيق الإكتفاء الغذائي، ومازالت (الثورة) حاضرت في الوجدان العربي، ومازالت تشكل مثالاً ملهماً للأجيال العربية، ودافعاً لاستعادة المبادرة القومية وتصحيح الخلل العميق في الأوضاع العربية.
مؤكد أن ثورة تموز والمسار التاريخي الذي صنعته كان أكبر من حجم الحركة العسكرية التي بدأتها الثورة، ممثلة بالضباط الأحرار، وأن أهدافها التي عملت من أجلها، كانت أوسع مدى من "المبادىء الستة" التي أعلنتها الثورة وسيلة علاج لواقع كانت تعانيه مصر، ولم يمنع غياب "النظرية السياسية الشاملة" للثورة وتباين الرؤية الفكرية بين الضباط الأحرار، الأمر الذي لا يمكن إلا الإقرار به، الثورة من القيام بدور تجاوز حدود مصر والوطن العربي، ومن ترك بصماتها الواضحة في تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما يمكن أن ندرك عمقه وأهميته ونحن نعيش الواقع الراهن، فمرور 68 عاماً على الثورة، لم يغيب الثورة التي عادت روحها إلى ميادين مصر مع 25 يناير 2011 ثم مع30 يونيو 2013.
لقد خاضت ثورة تموز معركة تغيير اقتصادي واجتماعي بمواجهة واقع قوامه نظام ملكي فاسد، وحاشية من المنتفعين والانتهازيين، لا يربطها بمصر إلا السلطة والاستئثار بها، مدعومة باحتلال يضع يده على قرار مصر، معتبراً إياها مزرعة تابعة للتاج البريطاني. هذا الواقع أدى إلى اقتصاد متهالك لا يستطيع تأمين لقمة العيش للمواطن المصري، مقابل ثراء فاحش ترفل به أقلية تسيطر على مقدرات مجتمع ''النصف في المائة"، حسب توصيف عبد الناصر. وتزداد قتامة المشهد باللعبة السياسية وأحزابها، المدارة من قبل القصر الملكي، المحكوم بالإرادة البريطانية ولذلك لم يستطع أكثر الأحزاب قوة وشعبية أن يخطو ولو مسافة قصيرة باتجاه المطالبة بإنهاء الاحتلال أو الحد من المفاسد الملكية أو تحقيق ما يصب في طريق العدالة الاجتماعية.
ولم يكن الواقع العربي أفضل حالاً، حيث تسود مرارة نكبة 1948 وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وفشل الجيوش العربي في إنقاذها. وبدأت الثورة منذ لحظتها الأولى محاولة تصحيح الواقع المحيط بها، فعمدت إلى إصدار قانون الإصلاح الزراعي، في خطوة لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية في الريف المصري. ورفضت الثورة وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين لمعالجة الركود الجاثم على الاقتصاد المصري، واتجهت إلى التصنيع، ثم التأميم، الذي أثار الدول الغربية دفعة واحدة مع تأميم قناة السويس، الذي يعتبر، بنظر بعض من أرخوا للثورة، الحدث الذي كشف ماهية حركة 23 تموز، وأثبت أنها ثورة شعبية، وليس مجرد انقلاب عسكري. وأعيد بناء الجيش بعد أن تم تخليصه من المعاهدات التي قيدته، وكسر احتكار السلاح بالانفتاح على الشرق، في تجربة اهتدت بها كثير من دول العالم النامي فيما بعد.
وسرعان ما اتجهت الثورة إلى الساحة العربية، وأنهت تناقضاً مفتعلاً بين الوطنية المصرية والقومية العربية، كانت تتلاعب بأوتاره الملكية انطلاقاً من انتمائها غير العربي، ولتتولى بعد ذلك قيادة النضال القومي في مواجهة المشروع الصهيوني، مقدمة الدعم لثورات الاستقلال الوطني في البلدان العربية الخاضعة للاحتلال الأجنبي، وأسست فعلياً للتحولات العميقة التي أصابت الوطن العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي أفرزت مداً قومياً توج بوحدة 1958.
إن التبدل الجذري الذي أحدثته ثورة 23 تموز أثمر تنمية حقيقية في مصر، أكدتها المؤسسات المالية الدولية التي لم تكن تخفي عداءها لسياسة مصر، التي ودعت قائد ثورتها جمال عبد الناصر في أيلول 1970، ولم يكن حجم ديونها يتجاوز حدود 1.2 مليار دولار، وعجز ميزانها التجاري لم يزد عن 7.139 مليار دولار، وهي أرقام ضئيلة جداً، ولا تقارن بما تحقق من نهضة تنموية، وبما أنجز من مشروعات عملاقة، لاسيما إذا أدخلنا في الاعتبار ما تعرضت له مصر من محاولات حصار، ومن عدوان في حزيران عام 1967، وإذا ما تذكرنا نتائج حرب الاستنزاف وآثارها على الحياة في مدن القناة والدمار الذي خلفته، رغم ما سجلته من صفحة فخار في تاريخ الجيش المصري، وما استلزمه إعادة بناء الجيش وإعداده لخوض معركة التحرير.
ومن باب الأمانة، علينا أن نقول الآن، أننا عندما نتحدث عن الناصرية فإننا لا نهرب من واقع عربي لا نستوعبه، ولا طاقة لنا على مواجهته، فنكون مثل دراويش يبحثون في لحظة وجد وغياب عن الغائب والمغيب، ولا نلوذ بناصر نرجسيا من واقع مفروض لا نقدر على تشخيصه والانتصار فيه، ولكننا نذهب إليه بوعي واحتياج معرفي لكي نستحضر ونقرأ درسه وتجربته، ولكي نستولد النموذج، والمنهج الناصري في حياتنا العربية، وعلينا أن نعترف أنّ من أصعب الأزمات التي تواجهها الأمة العربية اليوم هي أزمة غياب القيادة العربية المحورية، والتي لا يمكن لأي أمة في التاريخ أن يستقيم عودها وتمتلك قوتها طالما فقدت قيادتها، وبالتالي فإن الأمة العربية اليوم في أمس الحاجة إلى ظهور قيادة محورية تستطيع أن تجمع الفرقاء العرب على كلمة سواء في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، وهو ما يمثل أولى أولويات النهوض القومي العربي.
وللأسف الشديد فإن الأوضاع الراهنة التي تمر بالأمة العربية لا تبعث الأمل بظهور قيادة مرجعية قومية عربية لقيادة الأمة نحو مستقبل مشرف، كما أن جامعة الدول العربية التي كنا نأمل قيامها بدورها المنوط بها وبمسؤولياتها التاريخية لم تتقدم للأمام، فما حدث في ليبيا والعراق وسورية واليمن... مثال شاهد على تراجع وسلبية أدوار هذه الجامعة. وللأسف الشديد قدمت الغطاء الشرعي للتدخل الخارجي في ليبيا والعراق وسورية، كما أنها تمثل انعكاسا للأوضاع العربية الراهنة، وقد ناشدنا النظام الرسمي العربي في حينه بتبني دوره الحقيقي في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعدم دفع الدول العربية نحو المجهول، ولكن لم تجد تلك المناشدات أذنا مصغية، وبالتالي فإن وضع جامعة الدول العربية في سياقات الحل الذي يوحد العرب غير ممكن الآن، فرحم الله أولئك الرجال في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم الذي أعقب حرب يونيو 1967 مباشرة حين انطلقت اللاءات العربية الثلاث من ذلك المؤتمر (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) فهكذا عندما تمتلك الأمة قيادات تاريخية لم تستسلم للعدو، بل البدء في مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك لجولة قادمة مع العدو الصهيوني فأعدوا العدة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، واستعدت الأمة العربية قاطبة تعززها ثقافة المقاومة، وأثبت العرب أنهم قادرون على هزيمة ما يسمى بالجيش الذي لا يقهر وتحقق النصر بعون الله.
إن التقييم الموضوعي لثورة تموز لا يعني عدم الاعتراف بأخطاء وسلبيات وقعت فيها الثورة، استغل بعضها من قبل أعدائها بشكل كبير، إلا أن ثورة تموز تظل في مجملها، وفي ضوء سجل حافل، تجربة كبيرة في بلدان العالم النامي بتأكيدها على استقلالية القرار الوطني والاعتماد على الذات ورفض التبعية للقوى الكبرى. قال فيديل كاسترو ذات يوم إن ثوار كوبا وأمريكا اللاتينية عموماً كانوا يستمدون عزيمتهم من ثورة تموز، ولعل هذا ما يفسر عداء دول الغرب الرأسمالية الكبرى لها، بريطانيا ثم الولايات المتحدة في مرحلة لاحقة، إذ رأت فيها خطراً على مصالحها وعلى الغزوة الصهيونية التي ترعاها، ويوضح أسباب محاولاتها القضاء على الثورة واغتيال قائدها جمال عبد الناصر.
خلاصة الكلام: في ذكرى الثورة، لا أريد تكرار كم كانت مصر عظيمة وأمتها أعظم وكيف كانت الحركة الثقافية والفنية والأدبية (وحتى السياسية، رغم الديكتاتورية). ولا يمكن أن ينسى المرء أيضا مطباتها، من بداية فساد بعض من حملوا أفكارا نبيلة إلى نكسات الهزيمة في الحروب مع العدو. وإن ظلت حقيقة أن العدو كان واضحا: الاحتلال الصهيوني في فلسطين والقوى الاستعمارية الداعمة له. وللأسف في ذكرى الثورة، لم يعد عدونا واضحا (رغم أنه لم يتغير، وإن ازداد شراسة وطغيانا فحسب) وأصبحنا نخطب ود محتلينا السابقين من الأتراك العثمانلية إلى الفرنسيس والإنجليز. ولا أظنه بقي سوى وقت قصير قبل أن نفعل الشيء نفيه مع العدو الرئيسي: الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. ومبرراتنا جاهزة، وترسخت عبر السنين منذ بدأنا نسفه كل ما كان من تاريخنا وليس فقط ثورة يوليو وعبد الناصر.
*باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور