*مصطفى قطبي
تتكشف يوماً إثر آخر حقائق مرعبة عما يحصل في ليبيا من تدمير، وتخريب ممنهج، ومدروسٍ، وتبدو ليبيا من البلدان التي مزقها مدّعو الثورة من المتأسلمين، بدعم إقليمي ودولي مكشوف، ومفضوح بقيادة خزائن بترودولار قطر.
لقد صارت ليبيا بعد سقوط القذافي نهبا لعدد كبير من التنظيمات والميليشيات المسلحة غير الشرعية التي انتشرت في ربوع الدولة، وبلغت أعددا كبيرة وصلت للعشرات. ميليشيات متنوعة في التسليح، بعضها تمتلك أسلحة قتال ثقيلة ومختلفة بطبيعة الحال في إعداد العناصر المنضوية داخل كل ميليشيا، ويمكن توصيفها بأن بعضها يتبع أشخاصا والبعض الآخر يتبع تيارات سياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين أو تنظيمات عابرة للدولة القومية مثل تنظيم القاعدة وأخرى جهوية تتبع مدنا ومناطق، وكل المليشيات ليس لها وضع قانوني واضح في ظل عدم وجود دولة متماسكة بسبب غياب دور فعّال للجيش الليبي والشرطة وقوات الأمن، نتيجة غياب حكومة مركزية واحدة على كامل مساحة الدولة، وطبقا لتقارير منظمات دولية، تمتلك بعض هذه الميليشيات وتدير سجونا ومراكز احتجاز خاصة بها سجلت بها انتهاكات لحقوق الإنسان واستخدام التعذيب وافتقاد سلامة الإجراءات.
وعندما أخفقت هذه الجماعات والميليشيات الإرهابية في تحقيق النتيجة النهائية لأسيادها الممولين والداعمين، غدت مثل عش الدبابير الذي فقد دليله، فراحت تتقاتل ذاتياً ويفتك بعضها ببعض، في نزاع ضارٍ على الغنائم وفرض السيطرة... وكشفت مصادر عسكرية ليبية عن حدوث انشقاقات بين جبهات المرتزقة والميليشيات في طرابلس، وتؤكد صور عمليات اعتقال من الميليشيات لبعض عناصرها. وأوضحت المصادر أن الانقسام يتمثل في جبتهين يقود إحداهما وزير داخلية السراج، فتحي باشاغا، والأخرى بقيادة أسامة الجويلي بعد قيام قوة من عناصر باشاغا القبض على مرتزقة تابعين لميليشيات الجويلي في منطقة ورشفانة. من جهته، أوضح مدير التوجيه المعنوي بالجيش الوطني الليبي العميد خالد المحجوب أن الصراعات بين الميليشيات في طرابلس نابعة من رغبة كل طرف منهم في السيطرة على عملية صنع القرار أو نتيجة الاختلافات الآيديولوجية.
وكما هو الحال دائما في مثل هذا الصراع المسلح الذي تجري أحداثه داخل طرابلس، فإن نسبة كبيرة من المليشيات المتناحرة تحمل أجندات لا تصب في الصالح الوطني لأسباب عقائدية، أو لارتباطها بأطراف خارجية، تغذي الصراع لتحقيق أهداف تخصها لا تصب في مصلحة ليبيا، التي تسقط في محنة النزاع المسلح. واللافت في أمر هذه الجماعات والميليشيات أنها تتبع لجهتين لا تختلفان كثيراً في الايدولوجيا المتطرفة فجزء منها ينتمي للفكر القاعدي والداعشي، والجزء الآخر ينتمي لتنظيم الأخوان المسلمين العالمي الذي مركزه تركيا وراعيه نظام أردوغان، ولكن بالمحصلة كلهم تكفيريون إقصائيون يتفقون في العداء للإنسانية والحضارة وقيم التسامح والسلام والعدالة، ويتقاسمون معاً الرغبة في تشويه صورة الإسلام والمسلمين بنظر الأمم الأخرى بحجة إقامة الخلافة الإسلامية أو تطبيق الشريعة الإسلامية.
والجامع بين كل هذه التنظيمات الإرهابية أنهم مرتزقة يتلقون تمويلهم من جهات خارجية وتحركهم الغرائز الحيوانية والأحقاد، وجل خلافاتهم وصراعاتهم تدور في سبيل الحصول على التمويل والدعم من هذه الدولة أو تلك، وكثيرا ما تناقل الإعلام صراعات لهم وقعت بسبب المسروقات والغنائم والمواد التموينية، وفي كثير من الأحيان كان الاتجار بالأطفال والنساء أو ما تسمى عمليات الاتجار بالبشر سببا لوقوع صدامات دامية بين هذه المجاميع الإرهابية.
في التحليل فإن ثمة ما هو أبعد بكثير مما يجري على الأرض - ونقصد هنا تداعيات حالة الفشل والعجز التي تفرض حضورها في الميدان خاصة وفي المشهد بشكل عام - حيث لا تزال الخلافات والاختلافات المتصاعدة بين أطراف الإرهاب وأدواته تدفع بأحمالها وأثقالها وأوزارها إلى السطح كانعكاس صارخ لتباين وتناقض وتضارب المواقف والمكاسب والمصالح والاستراتيجيات بشكل أشمل وأوسع، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تأجيج الصراعات التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، وهذا أيضا يؤدي بدوره إلى توتر وتعثر وتخبط في الأداء والسلوك والمواقف، ما يجعل من الذهاب إلى التصعيد وامتطاء خيارات الحماقة والمغامرة والأوراق المحروقة أمرا عاديا، بل ومتوقعا من تلك الأطراف، لأن ذلك يشكل لها على الأقل متنفساً ضرورياً، من الضغوطات المتراكمة والمتدحرجة بشدة في هذه المرحلة العصيبة، التي تعصف بتلك الأطراف، وبذات الوقت يعتبر هروباً من مواجهة الواقع الجديد المرتسم على الأرض والذي يرفض أولئك الإرهابيون حتى اللحظة الاعتراف به.
إن مقاربة الأمور بهذه الطريقة لا تسهل علينا فهم الكثير مما يجري على الساحة فحسب، بل تسهل علينا فهم واستشراف ما يدور ويحاك خلف الكواليس أيضاً، وصولاً نحو فك طلاسم وشيفرات كل المواقف والسياسات التركية والقطرية والأميركية والغربية... التي لا تزال تنتهج الغموض كوسيلة مفضلة لديها للتهرب من استحقاقاتها وإدارة الواقع بتعقيداته وتشعباته كما هو حتى تتضح الصورة أكثر، أو على الأقل يتبلور مشهد جديد بمعادلات وموازيين وقواعد تُمكن تلك الأطراف من معاودة ابتزازها لحفتر وحلفائه، وهذا الطموح بعودة الأمور إلى الوراء قد أجهضه الصمود والثبات الليبي وباعتراف الكثير من المسؤوليين والسياسيين الغربيين.
نحن أمام مشهد لا يكتمل بهذه التفصيلات، لأن الليبيين ليسوا وحدهم في الميدان، وليسوا وحدهم في الأزمة، وليسوا وحدهم من سيتوصل إلى الحلول، على الرغم من أن المنطق والدعوات والادعاءات والتصريحات والبيانات تقول بأنهم وحدهم من ينبغي أن يتوصل إلى الحلول! ذلك لأن على الأرض الليبية اليوم دول وسياسات ومحاور وقوى وتيارات فكرية ودينية وقبائل تتقاتل، وعلى أرضها مقاتلون وأجهزة استخبارات وإرادات... وفي تربتها السياسية أيد كثيرة، مرئية وخفية، تطبخ الطبخة المرة التي مادتها وآكلها والمتأثر بكل ما فيها من سموم وأدواء هو الشعب الليبي... وفي ليبيا اليوم يظهر وجه الفتنة القبلية القبيح الذي عمل أعداء الأمتين العربية والإسلامية على أن يتجلى "فرقة وتمزقاً ومقتاً وموتاً ودماراً" ليحقق لهم من الأهداف ما عجزوا عن تحقيقه بالعدوان المباشر وبالسياسات الشريرة... والمسرح يُعد فيها لما هو أشد وأقسى وأدهى وأمر من كثير مما مضى...
إن التوازن الدولي بين القوى الكبرى ومن في حكمها، قد يقود إلى تعزيز مواقع المتقاتلين بصورة ما، لأن تلك الدول ستبقى على استراتيجياتها وسياساتها ومصالحها ومواقفها ومبادئها وستناصر من تراهم حلفاءها ومن ترى أنهم على حق أو من تراهم يخدمون استراتيجياتها... وسيكون ذلك من العوامل التي تدفع نحو استمرار الاقتتال وتفاقم الفتنة... نعم إنها رؤية سوداء وكم كنا نتمنى أن تكون عكس ذلك... والسبب فيما نذهب إليه أننا نشهد منذ بداية الأزمة مناورات وخدعاً وتوجهات نحو إشعال المنطقة وليس ليبيا فقط.
في ليبيا لم يعد الكلام يتصل بنظام وخيارات سياسية، وحتى بحلول سياسية جادة تتبناها كل الأطراف الدولية، وينفذها الليبيون باستقلالية تامة... ولم يعد الكلام عن حسم صراع بين الشرق الذي يديره مجلس النواب والجيش الوطني، وبين الغرب حيث المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، بل عن طبخة مسمومة تكثر الأيادي فيها، ومذاقها مواجهة وحشية، فيها أمريكا وتركيا وقطر وبعض الدول الغربية، داخل معادلة العسكرة والاقتتال، فهم طرف... وقد لا تغير المعطيات الجديدة والمستجدة من مواقف أصحاب المواقف السابقة منهم لأن أكثرهم لا يملكون إلا أن يدخلوا اللعبة الدامية سواء لأغراض في أنفسهم أو تنفيذاً لسياسات من يهمهم أن ينالوا رضاهم... أما بعض الليبيين ممن هم في حكم الأصوات والأتباع هم والأدوات فسيبقون على ما هم عليه، أصواتاً وأتباعاً وأدوات، وسوف يلتمسون لأنفسهم أعذاراً، ويبقون في أماكنهم التي يلوذون بها، وتستمر لهم الأعطيات ثمناً لدم أهليهم وذويهم وأمتهم التي كانت تؤويهم؟!
إنّ كل ذي عقل يدرك أن الحل السياسي للأزمة الليبية، هو المخرج المناسب للدولة والشعب والمنطقة إذا أخلص له الجميع النوايا ورجحوا كفة السلم على الحرب، لكن قبل هذا وذاك، لابد أن ندرك عن أي حرب نتحدث، ومن نحارب، سوف نقطع نصف الطريق لإيجاد الحلول، والخروج من عنق الزجاجة، ودعوني هنا أقدم بعض النقاط السريعة لتوضيح ذلك:
ـ الحرب التي نتحدث عنها هي عدوان حقيقي يُشن على الدولة الوطنية الليبية، والشعب الليبي بأدوات داخلية، وإقليمية، ودولية.
ـ العدوان الذي نتحدث عنه استخدم كل أدوات الإجرام، والقتل، والتدمير، وكي يفهم البعض ذلك عليه أن ينظر إلى عمليات إدارة التوحش التي تتم في ليبيا، والمنطقة، وإلى منظري الديمقراطية الأخوانية ـ العثمانية، الذين يقودون هذه العملية.
ـ ليبيا تحارب ذئاب البشرية، وهؤلاء تتقاطع مصالح العولمة المتوشحة مع أدواتها المتخلفة والرجعية في المنطقة (الإخوان- العثمانية...) وبقيادة أمريكية ـ تركية، مع اعتماد أدوات جاهلة في الداخل، ومتورطة وفاسدة، ومنظرة- وتافهة في أغلب الأحيان.
ـ إن السند الحقيقي الذي يجب أن نقف خلفه، وندعمه بكل قوانا من أجل مواجهة هذا العدوان الهمجي هو الجيش العربي الليبي الذي شكل عبر تاريخ ليبيا المعاصر القوة الوطنية الجامعة لكل الليبيين، وإن أي محاولة للمقارنة بين هذا الجيش، ومجموعات مسلحة مرتهنة للخارج هو عمل انتهازي- ساقط أخلاقيا - ووطنياً، ولهذا فإن تذاكي بعض (المعارضة) على الليبيين لا وزن له، ولا تأثير في معركة، وحرب بحجم ما يجري في ليبيا.
ـ إن سعي حكومة السراج، للاستقواء بقوى إقليمية، ودولية، والركض من عاصمة إلى أخرى معتقداً أن الحل تارة في تركيا، وتارة في قطر، وتارة في باريس ليس إلا مضيعة للوقت، والجهد، فمن يحسم على الأرض المعادلة الاستراتيجية فهو من ينتصر، ويحق له الجلوس حول الطاولة، وما هو مطلوب من الشعب الليبي التوحد، ودعم الجيش العربي الليبي في معركته ضد التكفيريين والإرهابيين الذين يشكلون رأس حربة المشروع المعادي لتقسيم ليبيا وتفتيتها.
خلاصة الكلام: كثيرون مروا في ليبيا، ثم رحلوا ولم يبق سوى أهلها الذين اختاروا أهليتهم الوطنية، فيما انتهى كل عبث بمقدرات البلاد وأهلها إلى الزوال، ولو أنها مرحلة مرت بكوارث وفواجع. وليبيا ليس جديدا عليها أن تقارع وتحارب، أن تجتث وتستأصل، أن ترفض كل تجربة لا تؤذي الحاضر فقط بل المستقبل بالتحديد. الميليشيات والجماعات الإرهابية، هي العنوان الذي يؤهله صانعه لمسح الحاضر، من أجل صناعة قيم مختلفة في كل مناحي الحياة من السياسة إلى الفكر والثقافة والفن والاجتماع والاقتصاد، ثم والأهم إلى تقسيم ليبيا. يقول المناضل العربي الشهير شيخ المجاهدين عمر المختار (1858 ـ 1931): إنني أؤمن بحقي في الحياة وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح. ولكن حينما أقاتل كي أغتصب وأنهب لأعيش أكون غير جدير بحمل صفة إنسان ولا بالدفاع عن حقي في الحياة. تلك هي تبعات المعادلة التي تنطبق اليوم على غزاة ليبيا فرداً فرداً..
باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور