*مصطفى قطبي
أحيا اليابانيون ذكرى ضحايا الهجوم النووي الذي دمر ناجازاكي قبل 75 عاما وأدى إلى مقتل حوالي 74 ألف شخص، بعد ثلاثة أيام على ذكرى هيروشيما التي لحقت بشقيقتها (ناجازاكي) لتؤرخ هاتان المدينتان بداية الوحشية والإمبريالية الأميركية من أجل فرض سطوتها وهيمنتها على العالم، باستباحة المحرمات والمحظورات، ولتدشن بذلك الدولة العظمى مرحلة جديدة من مراحل خرق القانون الدولي وإعطاء الحق لنفسها بإبادة البشرية عبر الحروب غير التقليدية. وللأسف فقد مرت الذكرى، دون اهتمام كبير، حيث أجريت طقوس يابانية محدودة، أصبحت مشهدا سنويا مألوفا لدى الدولة اليابانية المتحالفة مع الدولة المرتكبة للجريمة الشنعاء. استعادة للذكرى وتعاز للضحايا وخطب بعدم تكرارها ووضع الزهور على أشباح مدينتهم، ومثلها أصداء باهتة في بلدان لم تزل تحترق من اضطهاد وظلم الحرب والعدوان والغزو والاستيطان.
إن ما هدفت إليه أمريكا يومئذ هو إرهاب العالم، وهو ما أعلنه الرئيس ترومان "صهيوني الانتماء والعقيدة" نفسه، وبالرغم من أنه كان قد علم مسبقاً من مستشاريه وخبرائه أن اليابان سوف تستسلم من دون اللجوء إلى السلاح الذري، وأن قوة الردع الأمريكية وحدها كفيلة بدفعها للاستسلام، إلا أن جوابه كان بأنه يريد من عالم ما بعد الحرب أن يعرفوا من هي أمريكا، وأنه ليس لأحد الخروج على الطاعة الأمريكية التي ستصبح سيدة العالم الأولى بعد ذلك التاريخ.
وبالعودة إلى الماضي، يحسن بنا أن نعرض للظروف والأجواء التي أحاطت بقرار إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، ووفقاً لما صدر من كتابات ودراسات وأبحاث بعد ذلك، تؤكد بأن الرئيس ترومان، خليفة الرئيس روزفلت، قد خاطب قائد الطائرة عندما كان فوق مدينة هيروشيما مستفسراً عما إذا كان لا يزال يعني إلقاء القنبلة على المدينة فعلاً، فلعله لا يقصد غير التهديد، أو لعله رجع عن قراره في هذه الأثناء، فسأله ترومان: لماذا تسأل يا كابتن؟ وأجاب الكابتن: أريد معرفة تعليماتك هذه اللحظة، هل أفعلها يا سيدي؟! وتريث ترومان قليلاً إلى أن ينتهي من وضع القشدة والمربى على شريحة "السندويش" في طبق إفطاره، ثم تناول رشفة من فنجان الشاي المحلى بالسكر والحليب، وقال ببرود غريب وغير طبيعي في مثل هذا الموقف: افعلها يا كابتن افعلها، هذه هي أوامري؟!، وكان ما كان، ففي طرفة عين، ومع آخر رشفة من فنجان السيد ترومان كانت القنبلة الذرية تهوي فوق هيروشيما لتجعلها وأهلها في الثواني ذاتها أثراً بعد عين.
وإذا ما خطر لسائل أن يتساءل: لماذا لم تستخدم أمريكا سلاحها الذري بعد ذلك في حروبها الكثيرة لكي تحسم الأمور على هواها وحسب مصلحتها، فالجواب البديهي هنا هو أن دولاً أخرى، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي سرعان ما توصلت إلى حيازة قنابلها النووية والهيدروجينية، ومنها فرنسا وبريطانيا ـ حليفتا أمريكا ـ وأعقبت هؤلاء كل من الصين، والهند، وباكستان. أما إسرائيل فلها قصة أخرى، ذلك أنها هي وحدها التي أصبحت تملك قنابل ذرية في المنطقة سمحت بها أمريكا، خلافاً للشرائع الدولية والقوانين الناظمة لمسألة التسلح النووي، في حين تحظر بل وتمنع غير إسرائيل المدللة من الاقتراب من مجرد التفكير في المسألة الذرية، حتى لو كانت لأغراض سلمية.
فهل يكفي الاحتفال والتذكير بالمناسبة، أم يجب رفع شعار دائم كجرس إنذار: تذكروا دائما المأساة الرهيبة التي ارتكبتها الإدارة الأميركية ضد البشرية، ولا تنسوا جريمة الحرب هذه والإبادة الجماعية التي تمت فيها، والتي لا يمكن أن تمر ذكراها بيومها فقط ويصمت العالم عليها ليفاجأ كل مرة بأمثالها وبأشكال أخرى؟! إن ما حصل في اليابان ماض يتكرر بصور وبوسائل أخرى، من قبل الدولة المرتكبة، ولم تتوقف الحرب العدوانية، والمصطلحات التي استخدمها المعتدون على الشعوب التي تحاربهم أو تدافع عن أراضيها أمام غزوهم وهيمنتهم وأفكارهم الشريرة، فكل من يقاومهم عدو عندهم ويشيعونه في إعلامهم الناطق بمختلف الألسن بما فيها لغة الضحايا، وكل من يدافع عن حقه ويقاتلهم إرهابي ومخرب ومسلح ضدهم يتوجب القضاء عليه، فردا أو شعبا، بلدا أو عالما بشريا، ومازالت هذه الدولة هي الدولة الأكثر مبيعا للأسلحة المحرمة في العالم والتي فرضت استفرادها على السياسة العالمية وتقود المذابح البشرية بنفسها أو بالريموت كونترول، في كل أرجاء المعمورة، وتضع خططها الوحشية في مسميات تعبر عن عدوانها وجرائمها المرفوضة قانونا وأخلاقا وعرفا دوليا وإنسانيا.
حين ظهر في المدينتين المنكوبتين دخان الموت والدمار والرعب وحدث ما حصل خلفه، كان المؤمل أن تتوقف تلك الشهية الدموية وتتعلم من دروس تلك الكارثة البشرية، ولكنها عمليا تزداد شراسة وجشعا ونهبا ورغبة مريضة في إشاعة ذلك الدخان القاتل بأشكال متعددة ونشر رائحة الموت والخراب بالخديعة والغش والكذب والاحتيال وكل الوسائل المدانة. وللمفارقة فالأمم المتحدة صدعت رؤوسنا، بأهمية التصدي لانتشار الأسلحة النووية وتشدد هذه المنظمة الأسيرة، عدم التسامح مع صنع الأسلحة النووية، ولكن هذه الدعوة تظل لفظية ما دامت الولايات المتحدة هي التي تسيّر شؤون المنظمة وما يسمونه شرعية دولية حاليا، بينما يتطلب لمثل هذه الدعوة العمل العاجل على تحقيقها لحماية ملايين من البشر معرضين للإبادة بأشكال مختلفة من تلك الأنواع من الأسلحة التي تنتجها أو تخطط لها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها، وللمفارقة المضحكة أن دونالد ترامب في وقت سابق، انتقد اليابان لعدم تسديدها ما يتوافق مع حمايتها الأمريكية والقواعد والجنود الأمريكيين على أراضيها!
في ذكرى المجزرة البشعة تظل صور الضحايا التي صورت وانتشرت الآن عبر وسائل الإعلام والتقنية الإلكترونية شاهدة على تلك الجريمة ومنددة بمن يواصل مسعاه لتكرارها بأساليب أصبحت واضحة لكل مبصر حقيقي. وهذه الصور المتبقية والأشخاص الأحياء منها دليل إثبات وحكم مسبق على ارتكاب جريمة الحرب والإبادة الجماعية والقتل العمد للسكان المدنيين الآمنين، كما يحصل اليوم في أكثر من منطقة من الكرة الأرضية. كما صدرت كتب ومذكرات ومشاهدات عن المدينتين الضحيتين، وأنتجت أفلام وعروض ومشاهد سينمائية ومسرحية وتلفزيونية، ولكنها مرة أخرى ظلت محصورة في أماكنها ومناخاتها، وظلت أيدي الإدارة والمسؤولين عن الجرائم طليقة دون محاكمات وعقوبات رادعة، ومازالت كذلك رغم كل الدروس والعبر والتجارب، ورغم الحراك الشعبي والتضامن العالمي ونضالات القوى السياسية المناهضة للحروب والغزو والاحتلال، بل واصلت إدارات تلك الدول برامجها، وحتى في زياراتها لليابان أو لنُصب المدن المنكوبة، لم تعتذر عن جرائمها ولم تعد بتغيير مناهجها العدوانية وحروبها المستمرة.
إن إحياء الذكرى من قبل الشعب الياباني قد ينظر إليه البعض بأنه شأن خاص به لما لحق به من كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، لكن إحياء هذه الذكرى في هذا الوقت بالذات مهم لتذكير العالم الذي تعمل بعض القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة جره إلى حروب غير أخلاقية وغير تقليدية تهدد بفناء العالم إن وقعت، لا سمح الله. والذكرى في أحد جوانبها تبعث برسائل خاصة لشعوب منطقتنا والشرق الأوسط عموما، ليس من باب التذكُّر، بل في المناخ والظرف والواقع والمصير والوجود، وأن تستعيد وعيها بأن ما تعبث به القوى الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة من أمن واستقرار للمنطقة ومقدرات شعوبها وثرواتها، وما تنثره من بذور الفتن الطائفية والمذهبية وما تصنعه من الحركات الراديكالية المحسوبة على الإسلام من تنظيمات إرهابية لتوجه رماح إرهابها وسواطيره ضد شعوب المنطقة عبر عناوين كاذبة وخادعة مثل "حماية الحريات ونشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان" وغيرها من العناوين، كل ذلك لا يقل عن المأساة اليابانية في مدينتي هيروشيما وناجازاكي. فضحايا المنطقة الذين تجاوزوا أضعاف أضعاف ضحايا تلك المدينتين ولا يزالون يتساقطون هم ضحايا الحروب غير الأخلاقية والتدخلات في الشؤون الداخلية في دول المنطقة ونثر الفتن والمؤامرات التي تقودها الولايات المتحدة ومن تحت عباءتها من القوى، ومعها حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي وحده ما أباده من الشعوب العربية الفلسطينية والمصرية والسورية والعراقية... يفوق أو يكاد ما فعلته قنبلتا هيروشيما وناجازاكي.
خلاصة الكلام: لقد أسست قنبلتا هيروشيما وناغازاكي الذريتان منذ آب 1945 للإرهاب الأمريكي على مستوى العالم، والذي مازال قائماً حتى اليوم، وكان سبباً في مقتل شعوب برمتها، وكأنها قطعان، لصالح تشغيل مصانع السلاح، وتجريب الأسلحة الفتاكة، كما كان سبباً رئيسياً ومدمراً في إشاعة التخلف والتبعية والجهل في كثير من بقاع العالم، لا لشيء سوى لمواصلة أمريكا استغلالها وسرقتها لثروات تلك الشعوب التي أطلقت عليها تسمية: "العالم الثالث"، إمعاناً في ازدرائها والاستهانة بها، ولإبقائها على ما هي عليه دونما أمل أو حلم في مستقبل أفضل، وكل هذا مع زعمها بعد ذلك كله بأنها رائدة الحرية والعدالة والديمقراطية، ويا لها من مهزلة تتوّج جبين عصرنا الراهن!
باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور