*مصطفى قطبي
إن الاحتفال باليوم العالمي للترجمة، تقليدٌ حضاري كبير ونبيل يأتي اعترافاً بالدور الكبير الذي تؤديه الترجمة في مدِّ الجسور بين الشعوب المختلفة الألسن، وتقريب العقول والقلوب والوجدان، فهي عملية نقلٍ للمعارف الإنسانية من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى... وليست الترجمة وليدة العصر الحديث، فهي تُعَدُّ واحدةً من أقدم نشاطات الإنسان، فقد تزامن ظهورها مع شعور الإنسان بالحاجة الماسة للتواصل والتفاهم مع الشعوب الناطقة بلغاتٍ مختلفة، ومع أنه من العسير تحديد بداياتها التاريخية، إلا أن الترجمة الشفهية ظهرت قبل الترجمة الكتابية، وقد أسهمت الترجمة، ولا تزال، إسهاماً مهماً في دفع عجلة التطور على مدى السنين، فقد تسنَّى عن طريقها للشعوب القريبة من بعضها والمتباعدة التعرف إلى حضارات وثقافات وتاريخ وعلوم كلٍّ منها.
اليوم وعلى الرغم من الاهتمام الذي نراه من بعض مؤسساتنا الثقافية المغاربية في الترجمة، إلا أننا نرى حركة الترجمة وفعالياتها بطيئة، مشتتة الجهود، قليلة المتابعة لما يُنجز في شتى المجالات، وهذا ما يعترف به الكثيرون من المترجمين المغاربيين، والنقطة الأهم أن البوصلة في معظم الأحيان متجهة نحو الأدب الفرنسي.... فمحنة الترجمة في البلدان المغاربية بخاصة والعالم العربي بعامة، تكمن في اتجاهين: قلة من يترجمون وضعف الترجمة، وهو أمرٌ مخيف، إذ إن ما ترجم إلى العربية منذ عصر المأمون العباسي إلى العصر الحالي لا يتجاوز الـ 10000 كتاب، وهو يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة، وأما الاتجاه الآخر في هذه المحنة فيكمن في المترجم نفسه. وإذا ما عدنا إلى الأرقام وجدنا أن مجمل ما نترجمه تتفوق عليه دولة واحدة من الدول الأوروبية... وكأن حالة الاستهلاك الحضاري ونحن نعيشها كمستهلكين للحضارة لا منتجين لها قد انعكست حتى على الأدب فإذا بنا نترجم عن غيرنا دون أن يُترجَم عنّا.
فنحن وبعد أن سعت جامعاتنا المغاربية على اختلافها في المستوى والتوجه إلى افتتاح الأقسام الكثيرة المعنية باللغات الأجنبية، وتخريج الأفواج من العارفين بهذه اللغات، ما زلنا نعاني من جهلنا بالكثير من الثقافات والمجتمعات الدانية منا والبعيدة، والسبب يتمثّل في أن معرفة اللغات الأجنبية لم توضع في حقول التجربة، أي العمل على الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية وفي مختلف الميادين، ولا أريد القول: والترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية لأن هذا يحتاج إلى كلام كثير، وإمكانات كثيرة أيضاً، وهنا أشير إلى سؤال مشروع وهو: لماذا لم تقم هذه الأفواج التي خرّجتها أقسام اللغات الأجنبية بدورها في شؤون الترجمة؟! وما الأسباب؟ وهل الشغف بالترجمة كان قليلاً أو ناقصاً، وهل كان الحديث عن الترجمة منقطعاً ما بين الأستاذ والطالب، تُرى أين تكمن المشكلة؟!
في ظني لا غاية مهمة يهدف إليها دارس اللغات الأجنبية سوى الترجمة، بعد إتقان اللغة ومعرفة أسرارها، وهذا أمر جليل لأن الأمم والشعوب والبلدان تتعارف بوساطة الترجمة، ولأن مناشط التجارة، والثقافة، والفنون، والسياسة، والسياحة، تقوم أصلاً على الترجمة، ومن دونها تظل ظروف التلاقي والتواصل عقيمة فلا تصل إلى أهدافها المرتجاة. هذه النافذة المشرعة على القطيعة مع الآخر بسبب قصور أعمال وأفعال ورؤى الترجمة، هي نافذة مخيفة لأنها ملأى بروح التجهيل، وعدم معرفة الآخر، سواء أكان صديقاً أم عدواً... وأنه من حق أبناء الشعوب أن تتعارف كي لا يبطش أهل القوة والدموية اللائذون بيافطة السياسة والمصالح بكل ما حولهم، لظنهم أن العالم كله، مالاً وجغرافية وتاريخاً وحضوراً، مُلك لهم، الترجمة ليست ضرورة، وإنما هي جوهر، وغاياتها أبعد من نقل كتاب أو تعريبه إلى لغتنا، لأنها الطريق المباشر إلى المعرفة الصحيحة.
لهذا أقول إن العيب، والقصور، والتراخي في هذا المجال، وترك هذه النافذة مفتوحة لتعبئة قلوبنا وأرواحنا بالجهل، يعود إلى أمور عدة، لعل في طالعها عدم وضع أهداف وطنية، وحين أتحدث عن الوطنية أتحدث عن الإنسانيةً، وترتيبها حسب الأولوية والأهمية، ولعل من أبرز هذه الأهداف العمل على إعداد المترجم الإعداد المهموم بالروح الوطنية كي نكوّن كفاءات الترجمة التي تستطيع رفع عمارتها، وبناء مدينتها، وهندسة جمالها الذي نحلم برؤيته! ومصاحبة لهذا الإعداد الجدي والرصين لابدّ من احترام المترجم، وبناء شخصيته الاعتبارية بوصفه أكثر من ناقل لغة، وأكثر من مثقف، وأكثر من موظف، وأكثر من لسان آخر، لابدّ من جوهرة شخصية المترجم لتغدو أثمن من الأحجار الكريمة لأهميته التي تكاد تكون سحرية لأنه يُعرّف من خلال الترجمة بلاداً ببلاد وثقافةً بثقافة، وعادات وتقاليد بعادات وتقاليد..
ومع قصور دور الترجمة في بلداننا المغاربية من وإلى اللغات الأخرى يظل الصوت الأعلى هو للمبادرات الفردية، والتي قد توصل بدورها إلى العالمية، بينما هو واجب مؤسساتي يُفترض أن تقوم به دول، ومنابر ثقافية، ووزارات لتصل صورتنا إلى العالم بما يتناسب معنا... لا كما يريد ذلك الآخر، والاستعمار لا يكفُّ عن تجديد صورته بألف وسيلة ووسيلة... ولا يملُّ من تغذية فكر (الفرانكفونية) مثلاً بغطاء ثقافي يعتبره حواراً بين الثقافات والحضارات، ولا يقف عند حدود اللغة فقط، فإذا بالجوائز المشبوهة تتكاثر... وفي نسخ عربية أيضاً... تحقق أعلى المبيعات كما الإيرادات.
يذكر إديث غروسمان أن أكثر المصطلحات رواجاً والتي يمكن من خلالها وصف عمل المترجمين؛ هو أنهم يكتبون أو بالأحرى يعيدون كتابة العمل الأدبي باللغة الثانية، أي اللغة المترجَم إليها، ويأملون أن يقوم قرّاء الترجمة باستقبال النص، عاطفياً وفنيّاً، بطريقة متوازنة ومنسجمة مع الخبرة الجمالية كقرّاء اللغة الأولى وأن العامل الفريد في تجربة المترجمين هو أنهم ليسوا مستمعين للنص أو منصتين لصوت المؤلف في عقولنا فقط، بل هم متحدثون بلغة النص الآخر ـ أي لغة العمل المترجَم ـ وهو ما يؤكده المترجم الألماني رالف مانهايم: إنّ المترجمين كالممثلين الذين يتحدثون كما كان الكاتب سيفعل لو أنه يستطيع التحدث باللغة الهدف.
خلاصة الكلام: لا شيء يملأ الحياة اليوم بالمحبة، وقد طفت ثقافة القوة الخشنة، سوى الترجمة، ولا شيء ينقذ البلدان والشعوب والأمم من نزعات البطش والدموية والاحتلال سوى الترجمة، لأنها توفر الاحترام ما بين هذه الشعوب، قد يكون بلد الآن ضعيفاً في اقتصاده وإعداده العسكري، ولكنه يمتلك حضارة هائلة في جمالها وغناها، مثل اليونان، الترجمة هي التي يعوّل عليها لتعريف أهل البطش والدموية بحضارة اليونان، كي يخافوا من أن يمسوا حجراً كان نشيداً من الغنى والجمال في مسرح من مسارح الثقافة العالمية. وفي ظني لن يكون هذا الإعداد، وبناء الاحترام للمترجم إلا عبر معاهد كبيرة، أو قل جامعات كبيرة معنية بالترجمة والتدريب لتصير مصانع لخلق ثقافة جديدة بمزاج جديد، وروح تَعرف معاني المحبة، مثلما تعرف: أن في الناس المسرة.
كاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور