الاخبار : إسرائيليون ينشطون بغطاء دبلوماسي لبناني
الاخبار-آمال خليل
الجدل حول مستوى التمثيل في مفاوضات ترسيم الحدود مع العدوّ الإسرائيلي، فتح الباب واسعاً لمناقشة واقع الدبلوماسية اللبنانية. الجدل نفسه أثير بعد دخول العميل عامر الفاخوري والاشتباه بتورط دبلوماسيين بتسهيل إخلاء سبيله وتسليمه الى الحكومة الأميركية. الشبهات في حالة الفاخوري، تصبح أدلّة دامغة في ملف شقيقين عميلين أصدرت المحكمة العسكرية في بيروت بحقهما حكماً بالإعدام، بعدما منحتهما سفارتا لبنان في أوكرانيا وبولونيا جوازات سفر لبنانية ووثائق ثبوتية دخلا بموجبها إلى لبنان وبلاد عربية. وبين هذا وذاك، يثار الجدل مجدداً حول مستوى الرقابة على البعثات واستغلال صلاحياتها لمصالح شخصية أو لمصالح العدو
في الثاني من شهر تشرين الثاني المقبل، تسقط بمرور الزمن جرائم الخيانة والتجسس والصلات غير المشروعة بالعدو، ولا سيما المادة 278 من قانون العقوبات التي تعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة «كل لبناني قدم مسكناً أو طعاماً أو لباساً (...) لعميل من عملاء الأعداء أو ساعده على الهرب أو أجرى اتصالاً مع أحد هؤلاء الجواسيس أو الجنود أو العملاء وهو على بيّنة من أمره». فكيف إذا كان هذا اللبناني موظفاً في السفارة ولديه صلاحيات تتقاطع مع وظائف إدارات الدولة؟ والمستفيد من سقوط التهم جهات في السفارة اللبنانية في أوكرانيا، إذ حصل في مثل ذلك التاريخ قبل عشر سنوات، أن جددت السفارة للمرة الثانية جواز السفر للمواطن الإسرائيلي من أصل لبناني جوزيف إلياهو الكلش الذي أدانته المحكمة العسكرية بالإعدام.
ما حظي به كلش، لم يكن أقل من التسهيلات التي قدمت لشقيقه ناتان. وهما متحدران من منطقة المرفأ في بيروت. الشقيقان غادرا لبنان إبان الحرب الأهلية، انتقلا الى فلسطين المحتلة، وحصلا على الجنسية الاسرائيلية وعملا لمصلحة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بحسب أحكام القضاء اللبناني. ما يعني أننا أمام شبكات عابرة للدول، تتلاقى على تعرية لبنان أمام العدو الإسرائيلي.
يتنقل الشقيقان كلش بين أوكرانيا وفلسطين المحتلة. وبحسب المعلومات، فإن جوزيف ينشط بتصدير واستيراد المنتجات الزراعية بين مصر وتركيا وفلسطين المحتلة. وتشير إحدى الوثائق إلى بيان حركة دخول وخروج جوزيف من أوكرانيا وإليها بين عام 2010 حتى عام 2017، إلى دخوله المتكرر إلى فلسطين المحتلة. إلى جانب وثيقة تتضمن طلب الحصول على تأشيرة دخول الى أوكرانيا تقدم بها جوزيف من السفارة الأوكرانية في تل أبيب بتاريخ 10 كانون الثاني 2010. أما شقيقه ناتان فيتنقل بين الأراضي المحتلة ودول أوروبا الشرقية على وجه الخصوص، وهو يعمل ضمن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية. وقد شارك ضمن جيش الاحتلال في عدوان تموز 2006. وكلاهما يحمل الجنسية الإسرائيلية. فكيف كانت توافق ممثلية الدولة اللبنانية في كييف وقبلها ممثليّتها في بولونيا على التعامل معهما؟
في عهد السفير اللبناني الأسبق في أوكرانيا يوسف صدقة، افتتحت السفارة في كييف عام 2005، بعدما اقتصر التمثيل الدبلوماسي سابقاً على قنصلية فخرية. وخلال ولاية صدقة، حصل الشقيقان على وثائق ثبوتية لبنانية. وبعد مغادرة صدقة، تولت السفيرة كلود الحجل منصبه وهي تشغل الآن منصب سفيرة لبنان في قبرص، استمر الشقيقان بالحصول على وثائق وتسهيلات كأي لبناني آخر.
ومن أبرز الوثائق الواردة في ملف الشقيقين كلش في سفارة كييف:
1 - صورة عن بطاقة هوية لجوزيف إلياهو كلش صادرة في بيروت بتاريخ 16 تشرين الثاني 1999.
2 - سجل عدلي باسم جوزيف إلياهو كلش صادر بتاريخ 4 آب 2004.
3 - جواز سفر لناتان كلش صادر عن سفارة لبنان في بولونيا في 20 أيلول 2005. الجواز نفسه استخدمه في السفارة اللبنانية في كييف لتقديم «طلب الترخيص بالتنازل عن الجنسية اللبنانية» بتاريخ 2 تشرين الثاني 2007، بهدف الحصول على الجنسية الأوكرانية. لكن طلب التنازل لم يكن موقّعاً من ناتان نفسه كما تقتضي الأصول، بل من السفير صدقة الذي يمتلك وحده ختم البعثة الرسمي. بعدها بيومين فقط من تقديم الطلب، عاد ناتان وتراجع عن طلب التنازل بطلب آخر مذيّل بتوقيعه بغياب توقيع السفير ودون ختم السفارة.
4 - بيان قيد إفرادي لناتان صادر في 29 حزيران 2005. ويظهر من الأوراق المرتبطة ببيان القيد، بأن ناتان نفسه هو من قدم الطلب للحصول على الوثيقة، مرفقة بتعريف من مختار محلة المرفأ.
5 - جواز سفر لجوزيف من الأنموذج الأحمر القديم صادر عن السفارة اللبنانية في كييف في 17 نيسان 2006 صالح لمدة سنة، علماً بأنه كان يحمل في الوقت نفسه جواز سفر لبنانياً آخر، جرى تمديده لمدة خمس سنوات في 25 أيار 2005، من قبل القنصلية الفخرية في كييف التي كانت تتولى حينها الأعمال القنصلية للبنانيين قبل افتتاح السفارة. فكيف حاز الرجل جوازَي سفر صالحين في الوقت نفسه، فيما التعليمات تقضي بألّا تمنح البعثة جواز السفر للمرة الأولى إلا بعد الحصول على موافقة خطية من الأمن العام الذي كان سيرفض تنفيذاً للقوانين، بسبب وجود الجواز الأول الصالح لمدة خمس سنوات ولم يكن قد انقضى منها إلا سنة واحدة. لكن بحسب الوثائق، لم ترسل السفارة إلى الأمن العام أي مراسلة بخصوص تجديد جواز كلش في ذلك الحين.
حظي جواز سفر جوزيف بتجديد إضافي في 12 كانون الأول 2006 أي قبل خمسة أشهر من انتهاء صلاحيته (صدر في 17 نيسان 2006). وإزاء إسرائيلية كلش، لا يمكن فصل التجديد عن تاريخه الذي أعقب عدوان تموز بخمسة أشهر.
وفي 26 تموز 2010، طلبت السفارة في كييف من الأمن العام، وكما تقتضي الأصول، تجديد جواز سفر جوزيف كلش الصادر عنها. في 2 تشرين الثاني، وصل إلى كييف جواب الأمن العام على الطلب. «رفض التجديد ووافق على منحه جواز مرور لمدة ثلاثة أشهر للعودة الى لبنان والإفادة مسبقاً عن تاريخ وصوله كونه محل تدابير عدلية». وهي عبارة تعني إما أنه موقوف أو مطلوب أو محكوم غيابياً.
مع ذلك، سجلت السفارة الجواب في محفظتها من جهة، وجددت جواز السفر المرفوض لسنة واحدة من جهة أخرى. ولا تحسب خطوة السفارة مخالفة للتوصية التي تهدف إلى حماية أمن لبنان فقط، بل انتهاكاً لسيادته أيضاً. والتجديد أعقب بشهر واحد فقط، تعميم وزارة الخارجية والمغتربين على سفاراتها نسخة من شكوى لبنان إلى مجلس الأمن الدولي ضد «إسرائيل» على خلفية شبكات التجسس، تتضمن أسماء 141 عميلاً يلاحقون أمام القضاء اللبناني من بينهم الأخوان كلش. كما تتضمن اللائحة مع اسمَي كلش، اسم اللبناني ميشال خليل عبدو الذي ورد اسمه في سجلات السفارة في 20 حزيران 2006 عندما نظّم أصلان والد كلش توكيلاً خاصاً له يخوّله بيع عقار في قضاء بعبدا. واللافت أن جوزيف لا يزال حتى الآن يستخدم العقار كعنوان له في لبنان، ضمن سجله في السفارة. مع الإشارة هنا الى أن أصلان نفسه ليس مقيماً في أوكرانيا.
في حديث إلى «الأخبار»، نفى صدقة أي علم مسبق له بعمالة الأخوين كلش. السفير الذي أحيل إلى التقاعد قبل ثلاث سنوات، برر سبب منحهما ما يطلبانه من معاملات، إلى «عدم وجود قاعدة بيانات موثقة للجالية تكشف له حقيقة أفرادها». وقال: «بعد تدشين السفارة، بدأنا بجمع الملفات والمعلومات». أما بالنسبة إلى تجديد جواز السفر من دون موافقة الأمن العام، فقال صدقة: «كان لدينا صلاحية بالتجديد لمدة سنة واحدة». جهل سعادته بحقيقة كلش، سرعان ما تبدّد. فهو أعلن عن قطع علاقته بهما فور علمه بأمر عمالتهما. وينسب لنفسه الفضل «بكشف شبكة التعامل لمصلحة العدو التي انخرط فيها جوزيف كلش ولبنانيين آخرين، وكانت تراقب الوزير السابق حسين الحاج حسن خلال زيارته لكييف عام 2012». وفي هذا السياق، قال أحد أفراد الجالية اللبنانية في أوكرانيا لـ«الأخبار» إن «صيت جوزيف السيئ ذاع عقب زيارة الوزير السابق محمد الصفدي كييف في 15 تشرين الثاني 2010، عندما نظّم تظاهرة أمام الفندق الذي كان ينزل فيه تحت شعار «رفض أن يحكم حزب الله لبنان»».
بالعودة الى صدقة، ولدى سؤاله عن سبب علمه بأمر عمالة الأخوين من لائحة الـ 141 عميلاً التي وصلت إلى سفارته في تشرين الثاني 2010، قال: «علمتُ من وسائل الإعلام التي كتبت عن شبكات التجسس»، ليستطرد قائلاً: «علاقة الأخوين كانت جيدة مع كل الجالية». لكن صدقة لديه تفسيره الخاص لمنح جوزيف كلش تجديداً ثانياً لجواز سفره في 2 تشرين الثاني 2010، بعد شهر على تعميم اسمه ضمن لائحة العملاء. ويقول السفير السابق: «قد يكون الموظف المعني أخطأ أو قام بالتجديد بالتواطؤ معه. إذ ليس صحيحاً أن كل الأمور تمر عبر السفير». لكن، وبعد اكتشافه شبكة التجسس، أرسل صدقة تقريراً حول جوزيف كلش إلى وزارة الخارجية، ثم قصد لبنان وزار رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان لإبلاغه بالأمر. الأخير أمّن له موعداً مع مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني التي سلّمها نسخة عن الملف، وكذلك فعل مع فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي.
وإذا كان صدقة قد قطع صلة كلش بالسفارة، فما هو السبب حتى يحظى الأخوان كلش بخدمات وتسهيلات في عهد السفيرة كلود الحجل؟ يقول صدقة «بعد فضحنا لشبكة التعامل، ضجّت الجالية في أوكرانيا، وبات الجميع في السفارة والجالية على علم بعمالة كلش. لا أدري ما هي علاقة الحجل بهما، لكن بالتأكيد، نبّهها الموظفون». ويشير صدقة الى وجود خلاف مع الحجل منعه من متابعة القضية بعد مغادرته والاستسفار منها.
الأمن العام رفض تجديد جواز سفر كلش ووافق على منحه جواز مرور لمدة ثلاثة أشهر للعودة إلى لبنان
«الأخبار» اتصلت بالسفيرة الحجل في مكتبها في قبرص. استمهلت لأخذ إذن من الخارجية بالتصريح. حتى ذلك الحين، تبرأت من التواصل مع كلش. صنفت تساؤلات صدقة بأن «غايته إلحاق الأذى بها بسبب العلاقة السيئة بينها وبينه بعد اكتشافها لملفات غير نظيفة يتحمل مسؤوليتها، بعدما خلفته مباشرة في سفارتَي كييف ثم لارنكا». الحجل «لا تعرف شكل الأخوين. وعندما كانت تمر من أمام المقهى الذي يملكانه في كييف، كانت تشيح بوجهها، كانت سمعتهما سيئة ومنتشرة في أوساط الجالية عن علاقتهما بـ«إسرائيل». لكن لم يكن هناك أي وثيقة أو تقرير في السفارة عن ملاحقتهما من قبل القضاء في لبنان».
وماذا عن لائحة العملاء التي عمّمتها الدولة على السفارات عام 2010؟ تقول الحجل: «علمت بها قبل سنة من الآن فقط». كما تصرّ على أنها لم تمنح كلش أي معاملة. لكن وثائق السفارة تشير إلى أنه في أيار 2013، أرسلت وزارة الخارجية الأوكرانية كتاباً إلى السفارة يطلب إرسال موظف لديها لتقديم الترجمة والمساعدة القضائية لجوزيف أثناء محاكمته أمام القضاء الأوكراني بتهمة التهرب الضريبي. الحجل أكدت أنها لم ترسل حينها أي مترجم. لكن ماذا عن الإفادة الممهورة بخط يدها والتي حصل عليها جوزيف في 6 آذار 2016، تفيد بأنه لا يحمل جواز سفر لبنانياً صالحاً. وهي الإفادة التي استخدمها للحصول على الجنسية الأوكرانية. «لا تتذكر الحجل أنها وقّعت على الإفادة، برغم تأكيدها أن البعثات تقوم بهذا التدبير لرعاياها كنوع من التسهيل لمعاملاتهم». وعدت بأنها في اليوم التالي سوف تراجع السفارة للتأكد. تحدّث نفسها في محاولة تنشيط الذاكرة. يخطر ببالها أنهما «يملكان جواز سفر إسرائيلياً أيضاً».
في آذار 2016 حصل كلش على إفادة من السفارة اللبنانية في كييف، ساعدته في الحصول على الجنسيّة الأوكرانيّة
بداية عام 2014، أصدرت المحكمة العسكرية حكماً غيابياً بالإعدام على الأخوين جوزيف وناتان كلش، وحضورياً على ميشال خليل عبدو بالسجن 6 سنوات بتهمة «إبلاغ إسرائيل عن مراكز للجيش وحزب الله؛ من بينها مواقع وجسور تعرضت للقصف خلال عدوان تموز والتعامل مع الموساد ودخول بلاده». ماذا عن ملف كييف؟ «لم يحدث شيء في الخارجية أو في سواها»، جزم صدقة. «أنا أبلغت الأجهزة الأمنية في لبنان عن جوزيف كلش وقمت بدوري لحماية لبنان». لكن صدقة يستبعد إمكانية توقيف كلش فهو «يملك جواز سفر أوكرانياً وليس هناك معاهدة تسليم للمطلوبين بين أوكرانيا ولبنان».
ناتان كلش واغتيال عوالي
أكثر من حكم قضائي صدر بحقّ الشقيقين جوزيف وناتان كلش. أحد الأحكام كان في جرم التعامل مع العدو. لكن أبرز الأحكام هو ما صدر بحق ناتان، وتحديداً في جريمة اغتيال القيادي في المقاومة، غالب عوالي، في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 2004. وقد أنزلت محكمة التمييز العسكرية عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، غيابياً، بحق ناتان إلياهو كلش. فالأجهزة الأمنية تشتبه في أي يكون ناتان عنصراً في أحد أجهزة استخبارات العدو، لا عميلاً يعمل لحساب تلك الأجهزة وحسب. كذلك فإن ما لدى الأجهزة الأمنية من معطيات يشير إلى إمكان أن يكون ناتان هو أحد الذين جنّدوا العميل ميشال خليل عبدو للعمل لحساب استخبارات العدو. والأخير، هو أحد الذين كان لهم دور في عملية اغتيال عوالي، لجهة تأمينه انتقال مجموعة إسرائيلية إلى داخل الأراضي اللبنانية، عملت على تنفيذ الاغتيال. وتُصنّف أجهزة الأمن اللبناني ناتان في خانة الشخصيات الأمنية المعادية الشديدة الأهمية، وتستغرب استمرار البعثات الدبلوماسية اللبنانية بالتعامل معه كلبنانيّ «لا حكم عليه».
صحيفة الاخبار