الاخبار - ميسم رزق
ليسَ مفهوماً بعد السبب وراء بث أجواء إيجابية حول ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. صحيح أن الجانب الإسرائيلي - الأميركي تجاوب مع جزء من الآلية اللبنانية، تحديداً في ما يتعلق برعاية الأمم المتحدة لعملية التفاوض، الا أن النقطة الأهم وهي التلازم البري والبحري لا تزال محطّ أخذ وردّ، نتيجة إصرار العدوّ على الفصل، وعلى «تبادل الأراضي». ويبقى السؤال الأهم بلا إجابة: لماذا قرر لبنان التفاوض مع العدو، فيما الجهة الأكثر تمسكاً بالتفاوض مع إسرائيل، أي السلطة الفلسطينية، وجدت أن تل أبيب لا تمنحها ما يكفي، ولو شكلياً، للبقاء «على الطاولة»، وبعدما أقفِل مسار التفاوض السوري؟
ما إن حطّ مُساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد في بيروت (15 أيار 2019)، حتى بدأت التساؤلات حول أسباب الزيارة. وما لبِثت التسريبات أن خرجت لتتحدّث عن منحى إيجابي يسلُكه ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، بعدما كانت بيروت قد حدّدت موقفها من مقاربته في رسالة سلّمها الرئيس ميشال عون الى الولايات المتحدة الأميركية عبر سفيرتها في بيروت إليزابيت ريتشارد، وتتضمن موقفاً لبنانياً موحّداً يقوم على «تشكيل لجنة ثلاثية تضم لبنان واسرائيل والأمم المتحدة بمتابعة أميركية، وعقد اجتماعات في مقر القيادة الدولية في الناقورة، وإطلاق عملية الترسيم البري والبحري بالتزامن».
لكن إلى حينه، لم يُفهم بعد السبب الذي يقف خلف بث أجواء إيجابية، لا سيما ون ما نقله ساترفيلد لا يحمِل تجاوباً مُطلقاً مع الطرح اللبناني. صحيح أن «إسرائيل والولايات المتحدة قبلتا بفكرة أن تكون المفاوضات بضيافة الأمم المتحدة ورعايتها، إلا أن النقطة الأهم وهي التلازم بين البرّ والبحر لا تزال محل أخذ وردّ» بحسب مصادر سياسية رفيعة المستوى متابعة للقضية.
في زياراته السابقة إلى لبنان، كان ساترفيلد يُحاول فرض وجهة النظر الإسرائيلية التي ترفض وساطة الأمم المتحدة، حاصراً هذا الدور بالولايات المتحدة. غير أن المشاورات اللبنانية التي وحدّت الموقف، عدّلت في بعض بنود التفاوض، خاصة أن الموفد الأميركي كان يُراهن على الخلافات اللبنانية بشأن الترسيم. فهِم ساترفيلد أن هذه الثغرة سقطت، وبالتالي لا يُمكن التعويل عليها، فعاد من جديد وشرح في زيارته الأخيرة ما سبق وأن طرحه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، بأن تلعب دولته دور الوساطة، وأن اسرائيل تقبل بذلك، لكن على قاعدة لجنة رباعية تجتمع في ضيافة الأمم المتحدة وبرعايتها، وتكون الولايات المتحدة ضامنة لهذه المفاوضات. فإسرائيل رفضت مطلباً لبنانياً بأن ترعى اللجنة الثلاثية اللبنانية - الدولية - الإسرائيلية، التي تألفت تطبيقاً للقرار 1701 هذا التفاوض، على اعتبار أن «مهمتها تسجيل الخروقات، وحسب»، كما رفضت أن «تكون المدة مفتوحة مُطالبة بتحديد مدة زمنية».
عدا ذلك، لا تزال مسألة التلازم بين البر والبحر، وهي الأهم، معلّقة. العدو يُصر على مبدأ الفصل، اقتناعاً منه بأن «هناك إمكانية لمعالجة المنطقة البحرية الإقتصادية الخالصة وفقَ تسوية هوف». وهي التسوية التي طرحتها الولايات المتحدة لحل «الخلاف»، وتقوم على أن يقبل الجانب اللبناني مؤقتاً، بأن يتراجع العدوّ بما يُقارب ٦٠ في المئة من المنطقة التي تحاول إسرائيل السطو عليها، وتبلغ مساحتها ٨٦٠ كلم مربعا. فيما تبقى المنطقة البالغة مساحتها ٣١٠ كيلومترات مربعة من دون استثمار، أو يصار الى تشغيلها برعاية الأمم المتحدة، وتوضع عائداتها في صندوق خاص إلى حين البت في النزاع حول هذه المنطقة». إلا أن رئيس مجلس النواب أبلع الموفد الأميركي أن «الأساس هو ترسيم البحر، والبدء تحديداً من نقطة الناقورة، لأنها النقطة الفصل في حسم بعض الأمور».
الغريب أن ساترفيلد وفق ما تقول المصادر «كان يظنّ أنه من خلال تواصله مع بري ورئيس الحكومة سعد الحريري يستطيع أن يصل إلى نتيجة بمعزل عن الرئيس عون، ويضغط بها على الأخير». والأكيد أن «ثمة قطبة مخفية في كل المداولات التي تحصل»، والتي لا تقل خطورة عن النتائج التي ستتأتى عن المقترحات وهي على الشكل التالي:
أولاً: الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية أميركية، يعني أن لبنان استنأنف هذا التفاوض وقبلَ بفكّ مسار التفاوض عن سوريا.
ثانياً: إذا قبل لبنان بمبدأ تبادل الأراضي الذي تريده اسرائيل، فسيشكل هذا الأمر سابقة يتمّ استخدامها في أي مفاوضات عربية - اسرئيلية، على اعتبار أن لبنان سار بها.
ثالثاً: التنازل عن جزء من الحصة النفطية، ولو مؤقتاً، لا يُمكن أن يضمن بأن يحقق لبنان أي نتيجة في مرحلة لاحقة.
رابعاً، والأهم، تزامن النشاط الأميركي في ما خصّ الترسيم مع انطلاق مسار «صفقة القرن». ولا يُفهم هنا سبب قبول لبنان بالتفاوض مع العدو، فيما السلطة الفلسطينية (الأكثر تمسكاً بمبدأ التفاوض) ترفض التفاوض بعدما قضت تل أبيب على أي أمل بمنحها «تنازلات» ولو شكلية، وفيما صارت سوريا عملياً خارج أي مسار تسووي بعد إعلان دونالد ترامب اعترافه بـ«السيادة الاسرائيلية» على الجولان.
وتجدر الإشارة إلى أن ساترفيلد لمّح إلى وصول «الخيرات» الى لبنان فور انطلاق التفاوض، بسبب العائدات التي سيجنيها من تهافت الشركات عليه، وسيستطيع من خلالها حلّ أزمته الإقتصادية. وأن كل تعاون إضافي من الجانب اللبناني سيقابله تعزيز لبرامج التعاون «التي تستفيدون منها».
يبقى السؤال عن خلفية تحرك واشنطن، التي ترعى مصالح الإسرائيليين أكثر من هؤلاء أنفسهم في أي قضية. لماذا أظهرت أميركا أخيراً استعدادها للعب دور الوساطة برعاية الأمم المتحدة؟ تضع واشنطن كل تركيزها في منطقة الخليج، فلا تُريد لأي باب آخر للصراع أن يكون مفتوحاً، وهي التي تعتبر بأن الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة نقطة توتر يجب حصارها بالتفاوض لكسب الوقت. ويبدو أن التطورات المُتسارعة على جبهة إيران - الولايات المتحدة دهمت المشهد اللبناني، من جهة ملف الحدود، فحفزت التوترات التي شهدتها الرياض والإمارات أخيراً واشنطن لتسريع البتّ به، لاسيما بعدَ توحّد الموقف اللبناني حوله.
فهم ساترفليد أن ثغرة الخلاف اللبناني حول التلازم سقطت ولا يُمكن التعويل عليها
ما عارضته أميركا وإسرائيل سابقاً في ما يتعلق بآليات التفاوض ومبادئه، ثم عادتا فقبلتا ببعض منه، مردّه إلى:
أولاً، الخشية من تداعيات ما يجري المنطقة، وضم لبنان الى حلقة تبادل الرسائل، كما في اليمن وسوريا والعراق؛
وثانياً، اعتقاد واشنطن أن بإمكانها، من خلال المفاوضات، دفع لبنان الى القبول بخط هوف؛
ثالثاً، فتح مسار تفاوضي بين العدو ودولة عربية من خارج دول «نادي صفقة القرن»، بما يشبه توريط لبنان في هذه «الصفقة» بصورة غير مباشرة.
في هذا الإطار، وضعت مصادر سياسية بارزة الزيارة السريعة التي قام بها ساترفيلد الى لبنان، حاملاً معه جواباً إيجابياً من الجانب الإسرائيلي على جزء من الآلية اللبنانية، في انتظار رد جديد على الملاحظات التفصيلية التي طلب لبنان إجابة عنها تتعلق «بضمانات من الجانب الإسرائيلي باستكمال المفاوضات حتى الوصول الى نتيجة»، بالإضافة الى «مستوى التمثيل في المفاوضات، والمشاركين فيها من عسكريين ودبلوماسيين، كذلك حجم الدور الذي ستلعبه الأمم المتحدة وأميركا».
أما عن تبدل المواقف في الجانب اللبناني، حيث كان بعض الأطراف يؤيد الطرح الأميركي بشأن فصل الترسيم البري عن البحري، فقالت المصادر إن «الزيارة التي قام بها وزير الخارجية جبران باسيل الى عين التينة (10 أيار)، كانت بهدف إبلاغ بري موقفا جديدا، وهو تأييد التلازم من قبل رئيسي الجمهورية والحكومة، لا سيما أن هذه النقطة كانت موضوع خلاف على طاولة المجلس الأعلى للدفاع». ونفت المصادر أن يكون «حزب الله قد ضغط على وزير الخارجية في هذا الصدد»، مؤكدة أن «الحزب وبري تفاجآ به»». واعتبرت بأن «الحريري وباسيل ومعهما رئيس الجمهورية لم يكُن بإمكانهم رفض الآلية كما طرحها رئيس المجلس، وخصوصاً بعدَ أن علموا بأن الأميركيين وافقوا عليها». رغم هذه «الإيجابية»، تقول المصادر «لسنا مطمئنين بالكامل. فطبيعة الطرفين اللذين نتعاطى معهما لا يمكن أن تجعلنا نضع أيدينا وأرجلنا في مياه باردة، بل على العكس نحن نتوقع كمائن من جانبهما في أي لحظة». بكل الأحوال من المفترض أن تعود السفيرة الأميركية بجواب رسمي حول تصوّر المرحلة المقبلة في ما خصّ ملف الترسيم، لا سيما أن رئيس الجمهورية يُصر على جواب رسمي ليبنى الموقف اللبناني على أساسه.
صحيفة الاخبار