*مصطفى قطبي
لا يمكن لأي مواطن عربي حر وشريف، في الذكرى الثانية والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية، إلا أن ينظر بعين الإعجاب والاحترام لما حققته الثورة خلال العقود الماضية، والأهم من ذلك تطوير منجزاتها. فأغلب المحللين والمراقبين والمتابعين للشأن الإيراني يجمع على أن مسيرة الثورة الإسلامية في إيران التي أكملت عامها الثانية والأربعين سنة، لم تكن معبدة بالورود، بل على العكس تماماً، فقد واجهت الثورة ومنذ انطلاقتها صعوبات وتحديات كبيرة وخطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي كجزء من فاتورة المواقف السياسية الجريئة والشجاعة التي تبنتها الجمهورية الإيرانية بشأن قضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني وما يتصل بذلك من دعم وتأييد لحركات المقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
إن ما يحتاج إلى وقفة تحليلية لاستخلاص العبر والدروس، هو نهج ومسار الثورة الإسلامية الإيرانية والاستراتيجيا التي يتبعها نظام الحكم فيها والدبلوماسية الذكية أو دبلوماسية الأبواب المفتوحة، وهي سمة ملازمة لها منذ قيام الثورة عام 1979. لقد انطلقت السياسية الخارجية من حقيقة أن إيران دولة مهمة، بحكم موقعها الجغرافي وثرواتها الاقتصادية وتاريخها وحضارتها العريقة، ونفوذها الإقليمي والدولي، فأضافت الثورة إلى تلك الحقائق عناصر القوة العسكرية الذاتية والاقتصادية، وتنظيم المجتمع وجاذبية الثورة كفكرة ونموذج، واستطاعت أن تتعامل مع مفردات الحداثة وعناصر الحكم، بدرجة عالية من الانفتاح، مع الحفاظ على هوية الثورة وطابعها الإسلامي، فأنشأت نظاماً سياسياً، زاوج بين مستلزمات الديمقراطية وآلياتها، وخصوصية الثورة وطبيعة المجتمع الإيراني، وقدمت نموذجاً في الحكم، يغطي رسائل واضحة، مؤداها أن الإسلام كنظام سياسي وأسلوب حكم ليس فعلاً ماضياً، وإنما يمكنه التعاطي مع المدرسة السياسية الحديثة، في الحكم والإدارة وقيادة المجتمع، وإلى جانب ذلك أدركت الثورة الإسلامية الإيرانية التي جاءت بمشروعها وحلمها أن العالم المعاصر لا يختلف كثيراً عما سبقه في إطار العلاقات الدولية، فمع وجود هيئات دولية ومنظمات تحكمها قواعد قانونية وأخلاقية وشرعية دولية، إلا أن عنصر القوة العسكرية والاقتصادية والنفوذ السياسي هي الفاعلة في الساحة الدولية وإدارة الصراعات وعلى كل المستويات.
وعلى الرغم من أن النظام السياسي في طهران أفصح عن هويته، من خلال تحديد وتشخيص من هو العدو ومن هو الصديق، انطلاقاً من عقيدة آمنت بها الثورة، إلا أن هامش المناورة كان واسعاً أمام الساسة الإيرانيين في إطار تحقيق المصالح العليا للشعب الإيراني، مع الحفاظ على ثوابت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كي لا تخسر مصداقيتها أمام حلفائها، وكذلك قاعدتها الاجتماعية الواسعة. فالثورة الإسلامية الإيرانية حسمت هويتها في تحديد العدو من الصديق، فكان الكيان الصهيوني عدوها الأول وشكلت تهديداً حقيقاً وهاجساً له ما أفقده توازنه وشكل له قلقاً وخوفاً وصداعاً دائما،ً ولعل فوبيا البرنامج النووي الإيراني ستبقى كابوساً يسيطر على تفكير قياداته العسكرية والسياسية...
ومن باب تأكيد المؤكد، ليس هناك من ثورة حوربت وحوصرت واشتدت الضغوط لـ''إسقاطها'' منذ اللحظة الأولى لقيامها، مثلما جرى مع الثورة الإسلامية في إيران إلى الآن، ولولا امتلاك هذه الثورة مقومات الحياة والقدرة على البقاء، لتم وأدها ولما استمرت طوال هذه السنوات الثانية والأربعين بقوة مذهلة وإنجازات مبهرة، رغم حجم التحديات التي واجهتها ومازالت مستمرة بتصاعد رهيب في الوقت الراهن، فرغم العقوبات الأمريكية والغربية وبعض العربان التي تعد الأشرس بحق إيران التي طالت الحجر والبشر، ورغم محاولات "تصفير" صادرات طهران من النفط والغاز ورغم التصعيد الأمريكي العدواني، واغتيال الفريق قاسم سليماني ورفاقه المقاومين والرد الإيراني الصاعق على ذلك بضرب قاعدة "عين الأسد" الأمريكية في العراق، ورغم استغلال حادثة الطائرة الأوكرانية، ورغم ترويج الشائعات بانتشار فيروس "كورونا" في أهم المناطق الإيرانية... ورغم كل هذه التحديّات والعقبات والإكراهات، إلاّ أنّ العلامة الفارقة لهذه الثورة، أنه كلما اشتد عليها الحصار والتحدي عليها ازدادت نهوضاً وقدرة على المواجهة وكسر الحصار بإنجازات باهرة، فهي في عزّ الضغوط الأمريكية أنجزت وتنجز مشاريعها العملاقة ومنها مشروعها للوصول إلى الفضاء وإطلاق حزمة من الأقمار الاصطناعية تم تصنيعها بإمكاناتها الذاتية وعقول علمائها الذين أدهشوا العالم بما أبدعوه من اختراعات علمية في مجالات الطب والصناعة والزراعة والدواء وتصنيع الأسلحة.
إن النهج الإيراني في السياسة وقيادة المجتمع، وفن إدارة الصراع، يستحق أن يطلق عليه - النموذج الإيراني- ليكون الراشدة للكثير من دول المنطقة التي سلمت الغرب كل عناصر قوتها وارتهنت له سياسياً وعسكرياً واستلبت وطنياً ما جعلها تتسول مساعدته لها وحمايته لأنظمتها دون أن تدرك - ومع الأسف - أن لا أخلاق في السياسة وإنما هي القوة والمصالح والنفوذ والتكتل. لقد اتبعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، دبلوماسية هادئة ومنضبطة، وخطاباً سياسياً واضح الملامح عززته منهجية وسلوك سياسي متطابق، تمام التطابق مع مفرداته ومضامينه، ما أكسب نظام الحكم في إيران مصداقية عالية لدى حلفائه وأصدقائه، وشكل الأساس لبعد استراتيجي في العلاقة بينهما، في الوقت الذي شكل فيه خوفاً وفزعاً وإرباكاً وصداعاً سياسياً لمعسكر أعداء الثورة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني والغرب الاستعماري، وتوابعه وأدواته الرجعية مستلبة الإرادة في المنطقة العربية والإقليم على وجه العموم إدراكاً منهم جميعاً لدرجة مصداقية الثورة الإسلامية ونفوذها الواسع في العالم. فالثورة الإسلامية الإيرانية طوال عمرها اعتمدت على الصبر الاستراتيجي والعمل الدؤوب، وانتقلت خلالها إيران إلى مصاف الدول المتقدمة من خلال إنجازاتها الكبيرة فارضة نفسها دولة إقليمية مهابة الجانب، وعزز هذا من دورها في محاربة الإرهاب إلى جانب سورية والعراق، ومد يد العون والدعم للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، فاضحة تخاذل أنظمة الحكم المتواطئة مع العدو الإسرائيلي ضد القضية الفلسطينية، وعندما حاولوا اختبارها بالنار واغتيال بعض قادتها جاء الرد العسكري صاعقاً سواء بإسقاط أحدث طائرات التجسس الأمريكية أم بضرب أهم قواعدهم في العراق.
منذ 42 سنة، وأمريكا تحاول بشتى الوسائل كسر وتركيع إيران وتدمير نظامها السياسي بالتعاون مع بعض الدول والكيان الصهيوني عبر حياكة المؤامرات ونسج الدسائس ضد إيران، إلا أنّ هذه المؤامرات والدسائس فشلت، والعقوبات التي فرضتها أمريكا لم تحقق النتائج المطلوبة والمؤامرات من بعض العرب عليها لم تتكلل بأي نجاح، وكان من المفروض أن يتعلم الأمريكيون وبعض عملائهم العرب أن مختلف سياساتهم ضد إيران رفعت من صلابة القيادة الإيرانية وتماسكها، لكن الأمريكيين لم يتعلموا الدروس ولا يريدون أن يتعلموا، ويلجؤون من جديد إلى العقوبات تارة والتهديد بالحرب تارة أخرى وتجفيف مصادر الدخل المالي...
إن عجز الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني عن حرف الثورة، عن مسارها أو إسقاط نظامها السياسي، وحرفها عن ثوابتها وخطها الواضح، على الرغم من كل أشكال الاستهداف التي اتبعها، من التحريض على الحرب عليها وإذكاء نارها إلى الحصار الاقتصادي، إلى استهداف العلماء والقادة الإيرانيين وصولاً لمحاولة ثنيها عن امتلاك وسائل العلم والتقانة الحديثة، المتمثل باستهداف برنامجها النووي، السلمي ناهيك عن حملة التحريض الطائفي والمذهبي، بهدف الوقيعة بين إيران وجيرانها العرب، كل هذه الاستراتيجيا الخبيثة والعدوانية واللاأخلاقية لم تجدِ نفعاً في التأثير على خط سير الثورة، ومحاولة حرفه أو إسقاطه، لهذا كله لم يكن أمام الغرب إلا الجنوح لمبدأ الحوار مع السلطة السياسية في إيران والاعتراف بشرعية نظامها وأهليته الدولية وقبول إيران في النادي النووي، والتعامل معها من موقع الندية لا التابعية واحترام مصالح شعبها، وقرارها الوطني المستقل، والأكثر من ذلك الاعتماد عليها في الحرب على الإرهاب، والمساهمة في حل قضايا المنطقة وأزماتها واعتبارها شريكاً أساسياً في رسم خرائط جديدة للمنطقة والعالم تتأسس على مبدأ الشراكة لا الهيمنة والاستئثار.
خلاصة الكلام: إن الثورة الإيرانية ثورة تستحق التقدير لأنها نهضت بإيران كدولة عظمى، وحافظت على الأهداف التي قامت من أجلها بل وزادت من عناصر القوة الإيرانية، وسلكت نهج التطور الذي يلائم عاداتها وتقاليدها ويدفع عنها تهمة الانغلاق، فلم تنجذب باتجاه الغرب بما يلغي حضارتها، وحافظت على وجودها وكينونتها، وقدمت مثالاً عصرياً لما يمكن أن تفعله أي ثورة إنسانية في العالم.وهذه الثورة الإيرانية التي عرفت كيف تسقط الرهانات السابقة الواحد تلو الآخر قادرة وتعرف كيف تسقط الرهان الجديد الأكثر لؤماً وحقداً القائم على مذهبة الصراع في المنطقة وتطويق إيران وإغراقها بالفتنة الطائفية والمذهبية ويستبدل بالصراع الأساس العربي ـ الإسرائيلي صراعاً مصطنعاً مع إيران بوساطة تيار تكفيري ظلامي هائج يعتمد على تحريك غرائز الإجرام والبغضاء واستئصال الآخر...
بريد المحور