يقول الامام السيد علي الخامنئي في احد خطاباته التوجيهية:"أرى لزاماً عليّ أن ألفت أنظار الإخوة والأخوات الأعزّاء، وخصوصاً الشباب، إلى أهميّة شهر رجب. لا يمكن غضّ الطرف بسهولة عن هذه المناسبات وهذه السمات المتعلّقة بالأيّام والشهور"*.
ويضيف:
•المحضر الإلهيّ
ترى الشخصيّات العظيمة وأهل المعنى والسلوك أنّ شهرَي رجب وشعبان مقدّمة واستعدادٌ للدخول بشكل مناسب في شهر رمضان المبارك، وهو شهر الضيافة الإلهيّة. فبماذا يحصل الاستعداد؟ إنّه في الدرجة الأولى بتوجّه القلب وحضوره، وأن يَعْلَم الإنسان نفسه أنّه في محضر الله وعلمه: "سبحان من أحصى كلّ شيء علماً"(1)، وأن يَعْلَم الإنسان أنّ أحواله وحركاته وسكناته ونيّاته وخطرات قلبه كلّها في محضر العلم الإلهيّ. وإذا تحقّق ذلك، فسوف يتضاعف اهتمامنا بأعمالنا وكلامنا وذهابنا وإيابنا وسكوتنا وأقوالنا، وسوف نلاحظ وندقّق في ما نقول، وأين نذهب، وماذا نفعل، وضدّ من نتحدّث ونتكلّم، ولصالح من نتحدّث. معظم مشاكلنا بسبب الغفلة التي تصدر عنّا في سلوكنا وأعمالنا. حين يخرج الإنسان عن حال الغفلة، ويتفطّن إلى أنه يُرى ويُحاسب: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية: 27)، فإنّه سيدخل شهر رمضان مغتسلاً، وبذلك سينتفع أكبر الانتفاع من هذه الضيافة الإلهيّة.
•المعاني التوحيديّة
حين ينظر المرء في أدعية شهر رجب المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، يجد أنّ معظم مضامينها يختصّ بالمعاني التوحيديّة؛ من قبيل التحدّث عن عظمة الله، وصفاته، وأن يرى الإنسان نفسه أمام هذه العظمة، ومعرفة السبيل الرحب نحو الخالق، والرغبة فيه، وفي السير عليه. ومن خصائص الأدعية في شهر رجب توجيه القلوب نحو التوحيد، ونحو الله، ونحو أسمائه وصفاته. يجب معرفة قدر هذا الشهر؛ بدايته مباركة بولادة الإمام محمّد الباقر عليه السلام، وأواخره مباركة بأكبر حدث في التاريخ؛ ألا وهو بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
•مشاهد العبادة جميلة
يا له من مشهد جميل عطر حقّاً، أن يكون شبابنا، ممّن يصومون الأيّام، ويقومون الليالي، ويقضون أوقاتهم بذكر الله والتفكّر في عظمته، وتعلّم المعارف الإلهيّة والأحكام الشرعيّة، والتذاكر في العلوم الحقيقيّة، ألا وهي علوم التوحيد. عليكم أيّها الشباب أن تنتهلوا من هذه الفرص أكثر من غيركم، فقلوبكم الطاهرة وأرواحكم النقيّة المنوّرة، مستعدّةٌ لتلقّي الأنوار والإشعاعات والرحمة والتوجّهات الإلهيّة، فاعرفوا قدر ذلك.
•أرصدة معنويّة
ما يحرزه الشعب عن الطرق المعنويّة، سيغدو رصيداً وذخراً يعينه على التقدّم إلى الأمام في ميادين الحياة كلّها، وبكلّ إرادة وعزيمة راسخة، ومقاومة لا تلين أمام المشكلات. فيفتح بذلك الطرق المسدودة، وينجز الأعمال الكبرى. ورصيد ذلك كلّه هو المعنويّة. شخص مثل إمامنا الخمينيّ قدس سره الجليل، الذي نزل إلى الساحة وحيداً، واستطاع بفضل العزيمة والإرادة الراسخة والإيمان والتوكّل تعبئة الشعب كلّه وإطلاق هذه الحركة العظيمة، كان يعتمد على هذا التدفّق القلبيّ والمعنويّ والروحيّ، والتوكّل على الله والمعرفة والعبادة أكثر من أيّ شيء آخر. وإلى آخر عمره، بقي هذا الإنسان الجليل على الرغم من شيخوخته وعجزه، يقوم منتصف الليل فيذرف الدموع، وفي النهار كالأسد الشجاع، وفي ساحات الوغى يهزم القوى الكبرى، ويرفع نقاط الضعف لدى الشعب، ويعزّز إرادات الناس كلّهم وإراداتنا جميعاً، وذلك كلّه ببركة تلك الأرصدة المعنويّة.
•المدد الإلهيّ
يستطيع كلّ واحد منكم، وخصوصاً الشباب، أن يتّصل بمصدر ومعدن القدرة العظيم عن طريق التوكّل والإرادة، وينتهل ويستفيض ويتنوّر ويمارس دوره المطلوب. الرهبانيّة التي قيل عنها في الإسلام "رهبان الليل" تختلف عن الرهبانيّة التي أوجدها النصارى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ (الحديد: 27)، فقد كانت رهبانيّة النصارى واتّباع الأديان الأخرى بمعنى العزلة وترك الدنيا والانقطاع عنها، ورهبانيّة الإسلام بمعنى المشاركة في كلّ ساحات الحياة: "سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله"(2)؛ كانت كلّ تحرّكاتهم وصمتهم وسكونهم وعملهم في سبيل الله. وعندها ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ (محمّد: 7). حين تسيرون في سبيل الله، فسيكون اللطف الإلهيّ والمدد الإلهيّ والدعم الإلهيّ معكم ولكم.
نتمنّى أن يشملنا الفضل الإلهيّ، وأن تشملكم جميعاً أيّها الأعزّاء أدعية سيّدنا الإمام الحجّة المنتظر المهديّ (أرواحنا فداه).
(*) من كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقائه شتّى شرائح الشعب من محافظات مازندران وگيلان وگلستان وكهكيلويه وبوير أحمد في 15/05/2013م.
1.مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ج1، ص305.
2.مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج11، ص14.ص
مجلة بقية الله