*مصطفى قطبي
تصادف هذه الأيام ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية (22 مارس 1945)، وما يحزن هو أن جامعة العرب، تعتبر أول منظمة دولية على مستوى العالم تم إنشاؤها قبل إنشاء منظمة الأمم المتحدة، ومجموع مساحة الوطن العربي يجعل مجموعها الثاني عالميا بعد روسيا، ومجموع سكانها هو الرابع عالميا بعد الصين والهند والاتحاد الأوروبي، ولكن للأسف الشديد لم نشهد طوال تلك السنوات الطوال أي إنجازات تذكر قامت بها جامعة الدول العربية بل عمل بعض أعضائها على إرساء شعار: اتفق العرب على ألا يتفقوا! بالتأكيد لا تحتاج المقاربة اليوم إلى قرائن وأدلة، وقد أتخم الراهن العربي بما هو أكثر من الحاجة، وبما فاض على قدرة الوعي العربي والمدى القومي على استيعابه، حيث تحول كل شيء كان مرئيًّا قبل تفجر "الحريق العربي" إلى أطلال وأثر بعد عين.
وبعيدا عن السرد التاريخي المكرر، الذي قد يصيب القارئ بالملل، وحتى لا نقع في الإطالة، سنسلّط الضوء على أهم إخفاقات الجامعة. فضعف ميثاق الجامعة العربية - في الحقيقة - هو السبب لأغلب الإخفاقات، فقرارات الجامعة العربية غير ملزمة، وحتى لو اتخذت بالإجماع، هكذا كانت وما زالت جامعة الدولة العربية، جامعة قائمة على شجب وتنديد واستنكار وزراء الخارجية العربية داخل مقرها الحافل باجتماعات وتوصيات ومؤتمرات وتكاليف ومصاريف لو كانت تفيد نملة لتعاطف الكل معها، ولكنها لم تقدم أي شيء يمكن ذكره لأي دولة عربية ولا حتى لأي مواطن عربي، وفشلت مع سبق اﻹصرار والترصد في حل كافة القضايا العربية ـ العربية وحتى العربيةـ الأفريقية، وحتى نكون منصفين ولا يدَّعي أحد أننا نوجه نقدا فقط ﻻ غير بدون أدلة تعالوا نستعرض سويا قضايا وأزمات الوطن العربي، ونرى ما هو موقف جامعة الدول العربية من تلك القضايا؟ وهل حلت أم أن الجامعة ووزراء خارجيتها سيظلون في حالة انعقاد دائم منذ منتصف القرن الماضي وحتى القرن الحالي دون حلول نهائية وﻻ حتى ابتدائية؟
فالجامعة العربية، لم تكتفِ بالعجز المزمن وحده، بل دلفت إلى حيث درك التواطؤ، فغدت مشاعا ومرتعا لإملاءات أمريكا والقوى العظمى. لقد مرَّرت كارثة تدمير العراق واستباحته وهدم أسس الدولة فيه، وشرَّعت وغطَّت غزو ليبيا وتركها نهبا للاحتراب الأهلي والفوضى، لقد كان موقف الجامعة غير مسبوق، إذ أنها قدمت ليبيا لقمة سائغة للحلف الأطلسي، أما في السودان فلا ننسى فشلها في الحفاظ على وحدته، ومنع تقسيمه، وعدم اتخاذ موقف إزاء احتمالات سلخ إقليم دارفور أيضاً عن الوطن الأم، كما سُلخ جنوب السودان في شباط 2011. أيضاً فشلت في معالجة الأزمة الداخلية في اليمن، ومنع تمزيقه، كما يتوج كل مواقف الفشل والإخفاقات، الموقف المريب والمشبوه إزاء تغلغل الإرهابيين التكفيريين في سورية، وارتكابهم أبشع الجرائم بحق المدنيين، فضلاً عن التخريب المبرمج للاقتصاد وتدمير الموارد، بدل وقوف الجامعة العربية بدولها وقدراتها في وجه أشرس الهجمات الإرهابية ضد دولة عربية شقيقة، وصلابة موقفها المعادي للاحتلال والعدوان والإرهاب، وبدل مكافأة دولة هذا حالها، لجأت الجامعة العربية لتجميد عضويتها ومقاطعتها، وهي من مؤسسيها، بل واستدرار شتى التدخلات الخارجية فيها، وبالتالي الإسهام في جريرة استباحتها واستمرارية الحرب عليها، ودون أن ننسى مواقف الجامعة العربية الشائنة إبان الحروب الإسرائيلية على لبنان وغزة، وحصار الأخيرة المديد...، وسائر ما يواجهه الآن الشعب الفلسطيني المنتفض والمستفرد به.
هذه هي جامعتنا العربية، التي تُعتبر أول منظمة إقليمية، سبقت في تأسيسها هيئة الأمم المتحدة وكتلة عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي، لكن أداءها لم يرتق إلى مستوى غيرها من المنظمات الإقليمية والدولية. إنّ الجامعة العربية تعلم جيداً القائمة الطويلة للحرائق التي تلتهم نيرانها البلدان العربية... وإلا ماذا نسمي الانقراض المفزع للعمل العربي المشترك؟ وأين اختفت إرادات عربية مشتركة كان يعول عليها؟ وأين معاهدة الدفاع العربي المشترك؟ وكيف تحولت منظمات قومية إلى مجرد هياكل بدون أي نبض؟ وفي أية زوايا تم إيداع قرارات قمم عربية استراتيجية لسنوات خلت؟ وقرارات قمم عربية اقتصادية؟ ومئات التوصيات والمقترحات والتمنيات في كل الشؤون التي يمكن أن تكفل إنجاز مشاريع تنموية تضع حدا للجوع والبطالة واختلال الموازين التجارية العربية، والتذبذب في صرف بعض العملات العربية؟ وأين تاهت مشاريع تحسبية أعدت من أجل مواجهة شح المياه والزحف الصحراوي؟ أين هي ودائع الائتمان التي تم المفاخرة بها على مدى أكثر من نصف قرن وكان الوعد فيها أن الفرص التنموية المتاحة مفتوحة بغير حساب لصالح برامج تنموية تحقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وفي فرص العمل، وفي اعتماد مقاربات مهمة لصالح العرب في مواجهة القرن الحادي والعشرين، وأن تكون للكلمة العربية باللسان المشترك ثقلها في المحافل الدولية؟!
أين العزائم والتطلعات والانتظارات أن لا يخرج مسؤولون عرب من اجتماعات تضمهم إلا على موعد مع إنجازات يشار إليها بالمزيد من التقدير والامتنان إقليميا ودوليا، في أية زاوية مهملة من مكبات جامعة الدول العربية تم (التحفظ) على السوق العربية المشتركة؟ وأين؟ وأين؟ ومع كل أين ما زال البحث جاريا عن (مربط الفرس) في زمن تخلت فيه الأغلبية العربية عن امتلاك الخيول المطهمة واستبدالها بالسيارات ذات الدفع الرباعي والمحركات الهاي تك. وأين، ومتى، وكيف، نتخلص من متواليات البكاء على أطلال قضايا يتم الاكتفاء بشأنها الآن على طاولات فضائيات بوصفها جزءا من التراث العربي؟! إن الأمر القومي الوحيد الذي استطاعت جامعة العرب إنجازه بجدارة، هو تأمين الرواتب والمكافآت الاستثنائية للأمناء العامين لجامعة الدول العربية وموظفيها.
في الحقيقة لو كتبت عن فشل جامعة الدول العربية وإخفاقها في حق شعوبها العربية على مدى الـ76 عاما لكتبنا مجلدات عديدة، وللأسف الشديد فشلت جامعة الدول العربية منذ إنشائها في حل أي قضية عربية. ونحن هنا لا نمتهن جلد الذات أو نقدم الإسقاط السلبي الذي يضع الأمة في دوامة التضعضع المعنوي، ولكن نسمي الأشياء بمسمياتها. وبعد هذا السرد الموجز لفشل الجامعة العربية، التي لا تماثلها مؤسسة إقليمية في الدنيا، نشعر أنه من حق القارئ أن يسأل: ما هو مستقبل هذه الجامعة؟ في الحقيقة هناك ثلاثة تصورات لما يمكن أن تؤول إليه الجامعة:
أولا: بعض المستائين من أدائها، ينادون بضرورة حلها، واستبدالها بمنظمة عربية أكثر وفاءً ووضوحاً والتصاقاً بمصالح الأمن القومي العربي، ويستشهدون بعصبة الأمم التي فشلت في منع وقوع الحرب العالمية الثانية، ما أدى لحلها واستبدالها بمنظمة الأمم المتحدة.
ثانياً: التصور الثاني، ويرى أنصاره ضرورة الإبقاء على الجامعة العربية، رغم مساوئها، لأنهم يخشون إذا حلّوا الجامعة العربية في ظل التشرذم والتفكك العربي، ألا يتفق العرب مرة أخرى على تأسيس منظمة أفضل منها، فيخسرون الأسوأ القائم، ويعجزون عن إيجاد الأفضل القادم.
ثالثاً: أما أصحاب الرأي الثالث، وهم الأكثر واقعية والأقرب إلى المنطق في تقديرنا، فهم يدعون إلى الإبقاء على الجامعة العربية، مع ضرورة المبادرة الفورية، بكل حسم وجدية من أجل تطوير نظم ومبادئ وآليات عمل الجامعة، وتدعيم أجهزتها ومؤسساتها، وذلك من خلال تعديل الميثاق على نحو يكفل لهذه المنظمة العربية القدرة المناسبة على تحقيق أغراضها، وتخويلها السلطات والصلاحيات اللازمة لذلك. وبعبارة أخرى فإن مؤدى ما يقول به أنصار هذا الاتجاه الواقعي هو أنه قد بات ضرورياً للغاية، إعادة النظر في ميثاق جامعة الدول العربية، بل وفي نظامها الداخلي والقانوني والإداري وهيكلها التنظيمي، لكي يتلاءموا والتطورات الحادثة على الساحتين العربية والدولية.
خلاصة الكلام: إن إصلاح الجامعة العربية يصب في مصلحة العرب، والعرب هم الآن في مفترق طرق، وهناك سياسات عربية تؤثر سلبيا على التماسك العربي، ومن هنا فإن المراكز البحثية لابد أن يكون لها كلمة ورؤية، مساعدة على الأقل، من خلال عقد ندوات فكرية معمقة، ومن خلال بحوث حول مستقبل العالم العربي، من خلال عالم يشهد متغيرات جيواستراتيجية، وان الأمن القومي العربي مهدد في أكثر من منطقة، فهل نرى نقاشا واسعا من المفكرين العرب حول حال الأمة العربية، وما هو مصير الأجيال الجديدة، وهل أساسا يمكن الحديث عن مفهوم إصلاح الجامعة العربية، أم أن هناك قفزة على الواقع الحالي وان مسألة الإصلاح أصبحت جزءا من الماضي؟
*كاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور