*مصطفى قطبي
الذكرى محطة في تاريخ الزمن يقف المرء أمامها مستعيداً ظروف قيامها والآثار التي تركتها، والمعاني التي رسمتها في الأذهان، وما يتوجّب عليه تجاهها، وتكتسب أيّ ذكرى أهميتها من خلال ما ارتبط ويرتبط بها من معان وقيم نبيلة. وهذا ما ينطبق على ذكرى عظيمة تحلّ اليوم، هي ذكرى شهداء السادس من أيار، ذكرى أعظم مَن في الدنيا وأنبل بني البشر، ذكرى الذين رووا بدمائهم تراب سورية الأرض العربية الطاهرة لتبقى مُحَّررة من رَجس الغزاة والمستعمرين الذين تعاقبوا على احتلالها، ومحاولات إذلال شعبها، ومصادرة إرادته، والهيمنة على مقدراته.
لقد عرف العرب خلال تاريخهم الطويل العديد من الموجات الاستعمارية التي اجتاحت بلادهم في التاريخ الحديث بدءاً من الاستعمار العثماني، مروراً بالاستعمار الأوروبي، وانتهاء بالاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين عام 1948، إلا أنَّ العرب لم يستسلموا للمستعمرين، بل بدؤوا المقاومة منذ أن وطئت أقدام المستعمرين والغزاة أراضيهم، وقدَّموا الكثير من الشهداء على مذبح الحرية والاستقلال. ومن المعروف أنه في عام 1916 ثار العرب على الحكم العثماني مطالبين بالحرية والاستقلال، ولهذا أعدمت تركيا آنذاك يوم السادس من أيار من العام المذكور كوكبة من الشهداء مُدعيَةً بأنها عثرت عن طريق الصدفة في دار القنصلية الفرنسية في بيروت على وثائق سرية مهمة ضدها، وأحالت تلك الوثائق إلى ديوان الحاكم العرفي في مدينة عاليه بلبنان الذي أصدر بدوره حكم الإعدام بحق هؤلاء، ونفذ الحكم في دمشق وبيروت بآنٍ واحد، وتقديراً لهؤلاء أصبح هذا اليوم عيدا للشهداء، هذا، وبطبيعة الحال، توالت قوافل الشهداء عبر كفاح الشعب العربي من أجل الحرية والاستقلال، ونستحضر هنا بعض أسماء الشهداء الأبرار، "شفيق بك مؤيد العظم والشيخ عبد الحميد الزهراوي والأمير عمر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري وشكري بك العسلي وعبد الوهاب الإنكليزي ورفيق رزق سلوم ورشدي الشمعة" الشهداء الذين رفضوا الانصياع للطاغية العثماني الذي حمله استبداده على إعدامهم ليكون هذا اليوم خالداً في حياة السوريين الذين واصلوا مسيرة العطاء، فهم لم ينسوهم ولن ينسوا أيضاً المشانق التي علقت في الوقت نفسه في ساحة البرج ببيروت لتسلب أرواح أربعة عشر شهيداً آخرين...
في السادس من أيار يستحضر السوريون ذكرى شهدائهم، وفي سورية تصدى الشهيد البطل يوسف العظمة وزير الحربية السوري آنذاك للجيش الفرنسي الذي زحف إلى دمشق في معركة غير متكافئة بسبب تفوق الجيش الفرنسي عدداً وعُدة على القوات السورية المتواضعة آنذاك وظل يقاتل حتى سقط شهيداً مع 400 من رفاقه، بعد أن كبَّدوا الجيش الفرنسي خسائر بشرية ومادية كبيرة، وبذلك يكون الشهيد يوسف العظمة هو أول من جَسَّد قولاً وعملاً مقاومة الاستعمار الفرنسي ومخطط سايكس ـ بيكو المشهور لاقتسام الوطن العربي بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي. وهنا تكمن عظمة الشهيد ''العظمة'' الذي رفض إنذار الجنرال غورو بالاستسلام وتسريح الجيش السوري والاعتراف بالإنتداب الفرنسي، وخرج لمواجهة الفرنسيين في معركة ميسلون رغم أنه يعرف نتائجها سلفاً، كما أشرنا قبل قليل حول اختلال ميزان القوة لصالح الفرنسيين.
وفي الثورات اللاحقة ضد الفرنسيين في سورية والتي بلغت ثلاثمائة ثورة كما وصفها الجنرال الفرنسي ''ويكان'' في كتاب ألفه عن سورية، توالت قوافل الشهداء، ومن أبرز هذه الثورات ثورة الشيخ صالح العلي في الساحل السوري، وثورة ابراهيم هنانو في حلب، وثورة حسن الخراط، والثورة السورية الكبرى بقيادة المرحوم سلطان باشا الأطرش، والثورات الأخرى في حمص وحماة ودير الزور والرقة والقنيطرة وحلب والقلمون ودمشق وغوطتها ودرعا وغيرها.
فما أشبه اليوم بالبارحة... فالسوريون هم السوريون مهما اختلف الزمان وتبدل المكان. فعيد الشهداء هذا العام يأتي زاخراً بالتضحيات الكبيرة التي يقدمها الجنود السوريون البواسل في تصديهم للحرب القذرة التي تشنها جبهة العدوان والتآمر على سورية، لمحاولة النيل منها ومن شعبها الصامد، وإخضاعها لتبعية أميركا والغرب بعد أن عجزت طوال عقود طويلة عن تنفيذ مخططاتها وتمرير مشاريعها التقسيمية، ليقف الجيش العربي السوري البطل اليوم كما في السابق سداً منيعاً أمام شرور الأعداء ويقدم الغالي والنفيس في سبيل أن تبقى سورية حرة أبية ورايتها عالية خفاقة. وما يميز احتفالات الشعب السوري هذا العام بعيد الشهداء هو تعرضه كوطن وشعب وقائد مقاوم وممانع لسلسلة جديدة من المؤامرات التي كانت ولازالت تستهدف وحدته وأمنه واستقراره من جهة، ودوره الوطني والقومي الرائد المدافع عن الحقوق والقضايا العربية والحاضن لحركات التحرر والمقاومة العربية من جهة أخرى، ليقع مدبرو ومنفذو تلك المؤامرات في فخ غبائهم وسذاجتهم كونهم اختاروا المكان الخطأ لنفث حقدهم ولتنفيذ مخططاتهم الإجرامية التي اعتاد الشعب السوري العظيم على إحباطها والتصدي لها بكل الأساليب والأدوات باذلاً لذلك كل غال ورخيص.
وكما روى شهداء السادس من أيار أرض سورية بدمائهم الزكية مسطرين أروع ملاحم البطولة... يسطر الشهداء الأبرار اليوم ملاحم جديدة من الشجاعة والبطولة فداء لسورية وعزتها، ليؤكدوا من جديد أنهم المثل الأعلى والقدوة الأسمى لكل الباحثين عن الحرية والاستقلال وعزة الأوطان وكرامتها وأنهم المحور الذي يلتف حوله جميع أبناء الشعب السوري الذي أثبت قدرته على مجابهة كل المحن والفتن والصعاب .
لقد كانت الشهادة ولا تزال السلاح الأمضى في مواجهة كل المؤامرات والحروب التي تعرضت سورية على مر التاريخ... السلاح الذي عجز أعداء سورية عن مجابهته والتصدي له رغم كل إمكاناتهم وقدراتهم التكنولوجية ورغم قوتهم الكبيرة التي لا حدود له. وانطلاقاً من ذلك أولت سورية الشهادة والشهداء جل اهتمامها وتقديرها حيث كان اهتمام القائد الخالد حافظ الأسد بهم لا حدود له على قاعدة (أنهم أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر) وهو الطريق نفسه الذي سار عليه السيد الرئيس بشار الأسد من تمجيد وتعظيم أولئك الشهداء الذين ضحوا بأغلى ما يملكون وكتبوا بحروف من دم صفحات ناصعة في التاريخ.
إن الشهادة ليست كلمة تقال أو قصصاً تروى بل هي ثقافة ومنهج وفكر وهي منظومة إستراتيجية متكاملة وأحد الخيارات الرئيسية والمفصلية للشعب السوري لمواجهة كل التحديات والمؤامرات وهي خيار يحضر بقوة عند نفاد الخيارات الأخرى لإعادة الحقوق وتحرير الأرض بخاصة في ظل هذا الواقع العربي المتردي جداً من جهة، وأمام هذا التكالب الخارجي على المنطقة من جهة أخرى بغية تفتيتها وتجزئتها مرة جديدة واحتلال دولها بشكل مباشر أو غير مباشر، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً بدءا من فلسطين المحتلة ومرورا بالعراق والسودان وليبيا وانتهاء بمحاولات التآمر الفاشلة على سورية بهدف النيل من وحدتها وأمنها ودورها الوطني والقومي الرائد.
فشهداء السادس من أيار، وكل الشهداء العرب على امتداد الوطن العربي الكبير هم الشعلة المتقدة التي تنير الدرب، وتشحذ الهمم، هم القدوة الحسنة والمنارة المتوهجة والسلف الصالح، علوا فوق المصالح الشخصية والأنانيات الضيقة عندما دعاهم الواجب المقدس، واستعذبوا الموت لتحيا الأمة، وسلكوا درب الشهادة ليكونوا المثل الصالح والقادة الرمز.
ونحن اليوم، وفي ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا العربية، ظروف التجربة والامتحان ظروف المحنة والمعاناة، وفي ظل هذه الهجمة الصهيونية الامبريالية والغزوة الأمريكية الظالمة أحوج ما نكون إلى التذكير والاستذكار بأبطالنا العظماء وشهدائنا الميامين، وأن نستمد من مواقفهم وتضحياتهم القوة والمنعة، والصبر والهزيمة، والإيمان والثبات. فالشعب الذي يملك أبناؤه إرادة الصمود والتصدي، إرادة التضحية والشهادة، هو الشعب الذي يملك حتمية النصر والبقاء، وهكذا هم أبطال الشعب العربي في فلسطين والعراق وفي كل بقعة من بقاع أرضنا المحتلة.
سورية المنذورة دائماً وأبداً للعرب، للأمل للعطاء... هي الوفية لدورها، لرسالتها، لعروبتها، لانتمائها، صحيح أن جراحها الآن كبيرة وأنها بسيوف الأخوة وأن الماء الذي شربوه من أعذب ينابيعنا وأن الخبز الذي نذرناه لهم، وأن الدم الذي سال من أجلهم لم يوقظ شيئاً من كرامتهم، بل أعادوه إلينا غدراً وتآمراً ومحاولة كسر سورية الدور والحضارة والعروبة، فكانت قوافل الشهداء من أجل ما بقي من العروبة، من الأمة... سورية المنذورة للأمل، للحياة، للألم، المقيدة بغدر الأشقاء ومن معهم افتدت العرب والعروبة... قدّم أبناؤها أنفسهم قرابين الغد المتجدد... وما يأمله السوريون أن تكون دماء الشهداء قد أزهرت في عيد الشهداء القادم لتبشر بموسم للخير والأمان والاستقرار لسورية الحبيبة وقد اجتازت هذه المحنة بكل قوة وعزيمة، الرحمة والتحية للشهداء والشفاء العاجل للجرحى والنصر لسورية وشعبها المعطاء المقاوم.
خلاصة الكلام: لقد باتت الشهادة في سوريا ثقافةً ومنهجاً فكراً وعملاً ومنظومة إستراتيجية وأخلاقية متكاملة، والشهداء هم الأبطال الحقيقيون الذين يعيدون لوطنهم إشعاعات قيم الحضارة ومعنى الحياة الحرة الكريمة، والسوريون إذ يواصلون بذل التضحيات، وتقديم الشهداء، فهم يتمسكون بإرثهم الحضاري والتاريخي الذي صنعه أبطال السادس من أيار، ومن بعدهم رفاق يوسف العظمة لحماية الاستقلال الأول، وأبطال النضال في وجه المستعمِر الفرنسي حتى جلائه، وصولاً إلى ما يصنعه شهداؤنا من أبطال الجيش العربي السوري اليوم في مواجهة الإرهاب والغزاة المحتلين. فقد أثبتت الأحداث أن الشهادة هي أهم الخيارات التي يمتلكها الشعب السوري لمواجهة أعدائه المتغطرسين والمتكالبين، وهي خيار حاضر باستمرار عندما تنتهي صلاحية الخيارات الأخرى، كما أنها رصيد لا ينضب من الوطنية الصادقة والحس العالي بالمسؤولية وحب الوطن، ولا يمكن لأي شعب أن ينتصر في أي معركة ما لم يمتلك أبناؤه روح الاستشهاد حب الشهادة قولا وفعلا.
كاتب صحافي من المغرب.
بريد المحور