المقال السابق

خاص خاص: قرار استيراد النفط الايراني يرسم معادلات جديدة 
20/08/2021

المقال التالي

لبنان الجلسة العامة : الحل بتأليف حكومة وبالبطاقة التمويلية 
20/08/2021
رأي يوم من ايام تموز

سامية فضل الله 

إنه يوم من أيام تموز الحارة.. بدأت العطلة الصيفية .. وكثيرة هي العائلات التي قررت أن تذهب إلى قراها، من أجل قضاء العطلة بعيداً عن ضغط العمل، وهرباً من حر المدينة وجوها الخانق.. "أحمد" ابن التاسعة، كان يرقص ويغني من شدة فرحه، فالضيعة بالنسبة له، هي الحلم الذي بات يحلم به طوال أشهر الشتاء والمدرسة.. إنها الحرية والانعتاق من كل القيود.. فيها يستطيع أن يركب دراجته بكل حرية.. يلعب بالكرة.. يطيّر طائرته الورقية..
      ما إن وصلت العائلة، حتى انسل من السيارة بخفة، وبدأ يجري ماراً على بيوت رفاقه المقيمين في القرية.. الذين سرعان ما تجمعوا حوله:
- سنبقى في الضيعة لمدة شهر..
- كم هذا جميل.. سنلعب ونتسلى كثيراً.. ماذا سنفعل غداً ؟
- في السابعة صباحاً نلتقي.. سيكون طعام الافطار مناقيش زعتر من فرن الضيعة.. وبعدها إلى بستان العم "أسعد".. ثم سنلعب بالكرة.. ثم بالطائرات الورقية.. ثم.. وثم..
      نام ليلته وهو يحلم بالغد.. زاره العم أسعد في أحلامه.. ذلك العجوز الطيب، الذي ما إن يراه هو ورفاقه حتى يهز عصاه مهدداً، ثم لا يلبث أن يناديهم ويقطف لهم ثمار البرتقال.. ويرمقهم بنظراته الأبوية الحانية، فيما هم يبتعدون عن بستانه، يلوحون له بأيديهم الصغيرة..
      استيقظ من نومه باكراً، قبل الجميع.. ارتدى ملابسه على عجل، وغادر منزله.. مر على بيوت الرفاق.. أطلق تلك الصيحة المتعارف عليها بينهم، وهاهم جميعاً مجتمعون، يستعدون ليوم حافل.. قصدوا الفرن أولاً:
- نريد مناقيش زعتر.. خمسة لو سمحت.
      ليس هناك من زبائن غيرهم، وبالتالي جهزت المناقيش سريعاً.. رائحة الزعتر مشهية.. أرادوا أن يبدأوا الأكل فوراً.. لكن أحمد استوقفهم..
- ليس الآن.. في البستان.
- المناقيش ساخنة لا تقاوم..
- قلت لكم في البستان.
      أخذوا طريق البستان.. ومن بعيد رأوا العم أسعد، وهو ما إن رآهم حتى لوح لهم، وناداهم بأسمائهم.. فجأة أظلمت السماء.. صم أزيز الطائرات الآذان.. طغى على ضحكات الصغار.. ما هي إلا لحظات قليلة.. دكت فيها المنازل، واشتعلت النيران في بستان العم أسعد والبساتين المجاورة.. دخان أسود وغبار كثيف زنرا القرية.. أصوات استغاثة تسمع من أماكن قريبة وبعيدة.. هرج ومرج.. أحمد يركض منادياً طارق.. أسامة.. علي.. أين أنتم؟! تفرق الصبية.. طارت المناقيش من الأيدي قبل أن تبلغ الأفواه.. وخالط الزعتر التراب والدماء..
- عمي أسعد أنا خائف.. ماذا يحدث؟ هي غارة أليس كذلك؟ عم أسعد.. لماذا لا تجيب؟!
من أين له أن يجيب؟!.. إنه ملقى على أرض بستانه، تلك الأرض التي أحبها، ومنحها أجمل سنوات عمره.. غرس فيها أجزاءً من روحه، رواها بعرق الجبين قطرة قطرة.. حتى رأى شجرها يكبر ويزهر ويتفتح برتقالاً وتفاحاً وأعناب.. من أين له أن يجيب!! والدماء تسيل من كل أنحاء جسده المشظى بشظايا الحقد والهمجية.. أما العينان فلم تفارقهما تلك النظرات الحانية الودودة.. واليد الكهلة التي خط الزمان عليها خطوطه ما زالت تلوح لأطفال صغار غادروا البستان منذ قليل، يحملون عناقيد العنب..
      أم أحمد كغيرها من الأمهات.. تجري على غير هدىً.. عيناها ذاهلتان تبحثان هنا وهناك.. تصطدم بالأجساد الفارة.. وتتعثر بالركام والأشلاء.. تقع أرضاً.. إنه علي:
- حبيبي علي.. ألم تر أحمد..؟
- ربما هو قرب بستان العم أسعد..
      وجدته.. أخيراً وجدته.. ينظر بعينين جامدتين.. لا يصرخ.. لا يبكي، ما إن رأى والدته وأحس بأنفاسها اللاهثة تلفح وجهه حتى انتفض، كمن ردت إليه الروح.. ضمها بقوة فهو يخاف أن تفارقه أو يفارقها.. سؤال سأله من خلال دموعه..
- ما هذا الذي يحدث ؟ ولماذا يحدث؟
      سؤال سيبقى صداه يتردد على مر الأزمان.. يطرق كل الآذان ويعصف بكل الضمائر، ولكن لن يكون له جواب..
 

بريد المحور

الكلمات المفتاحية

مقالات المرتبطة