حمزة فضل الله*
يقف القائد أمام أصحابه وإخوته وأهل بيته، ليلة المعركة، ليقول لهم أنتم في حِلٍ من أي التزام اتجاهي، يدفعه حبه لهم، والرأفة والرحمة بهم، ورؤيته لما ستؤول اليه الأمور.. القائد يطلب ممن بقي معه من المخلصين، تركه وحيداً يواجه جيشاً جراراً، كل ما يرُومه أن يراه صريعاً..
في المقابل نرى عشقاً واخلاصاً وايماناً يفوق الوصف.. نرى أصحاباً وأهل بيت، ليس كمثلهم أحد، يرون سيوفاً مشهورة، ورماحاً مسددة.. يرون قلوباً متحجرة، وعيوناً حاقدة.. يرون موتاً محتماً ينتظرهم في صباح يومهم العاشر.. لكن حبهم
لإمامهم، ولكل ما يمثل، من حق وصدق وعدالة.. وإيمانهم بقدسية القضية، التي خرجوا من أجلها.. والتزامهم بما عاهدوا عليه إمامهم منذ بداية المسير.. جعلهم يصرون على البقاء في أرض المعركة، وعلى الموت بين يديه، في سبيل نصرة
الحق، ومحاربةً للباطل، ولرفع راية الإسلام كما أرادها محمد (ص)، نقية نظيفة عادلة، لا تشوبها شائبة..
لم يغادر الإخوة وأبناء العمومة تحت جُنح الظلام، وثبتت العائلة الشريفة، ومعها الأصحاب الخُلَص في أرض الميدان.. باتوا ليلتهم، مع إمامهم،
يصلون، باطمئنان الواثق والمؤمن بعدالة قضيته.. ينتظرون بزوغ شمس يومهم العاشر من المحرم.. لقد أرادوها معركة النهج الصادق والشريعة الحقة.. أرادوا أن تكون عاشوراء حدثاً غير محدود بزمان أو مكان.. حدثاً رسالياً، هدفه السعي لتثبيت دعائم الحق، وإن كان العدد قليل والامكانيات محدودة.. ودحر الباطل، وإن اشتد وتمدد.. ومحاربة الظلم، وإن طال زمانه وكثر اتباعه..
وتمر السنوات تتلوها سنوات، ألف وخمسمائة سنة، والذكرى تتوهج في الضمائر ، والحب يزداد في القلوب، والعاشقون للإمام الثائر، أصبحوا ملايين، وها هم يسيرون في أربعينيته، كما في كل عام، قاصدين ضريحة المقدس، وكربلاءه المكلومة.. لا حر لاهب، ولا برد قارص.. لا طول المسافة، ولا عناء السفر، لا جوع ولا عطش، يثنيهم عن مقصدهم ووجهتهم.. الرجال كما النساء كما الأطفال.. الشباب والشيوخ، يجاهرون بالحب، يفاخرون بالمسير، يتحدون المسافات، ويرددون الملحمة، بلغاتهم المختلفة، ولهجاتهم المتنوعة..
وتمتد موائد الكرم على حب الحسين، ويتنافس الجميع لخدمة زوار الحسين، ينتشرون على الطرق المتصلة بكربلاء الحسين.. يقدمون كل ما يملكون، فالبخل ليس من شيمهم.. وكأني بتلك الدماء الطاهرة التي سالت ذات صيف لاهب، فوق رمال هذه المدينة، فداءً وعشقاً، في العام ٦١ للهجرة، قد أنجبت الملايين.. وتحقق يقين زينب(ع): "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا" .. عشاق ومحبون، جاؤوا يسعون من جهات الأرض الأربع، يرددون ذات النداء: "لبيك يا أبا عبد الله.. لبيك يا حسين.. بأبي أنت وأمي يا شهيد كربلاء".
*ناشط اعلامي
المحور الاخباري