*مصطفى قطبي
يبدو أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة المقرر إجراؤها في العام القادم بدأت تثير الكثير من اللغط والانتقادات والأسئلة منذ اليوم الأول لإعلان عدد من الراغبين ترشيح أنفسهم لخوضها. لقد بدأت معركة الرئاسة الأمريكية للعام القادم تحتدم، وتأخذ منحى التحديات العلنية، وعرض الخطط والمشاريع والتوجهات والمواقف، حيث أخذ عدد كبير من المرشحين يطمحون بالوصول إلى البيت الأبيض، ويستعدون مبكراً ويعدون العدّة لبدء حملاتهم الانتخابية التي ستكون ساخنة، حسب العديد من المراقبين والمحللين السياسيين.
الشكل العام للانتخابات الأميركية يوحي بأنها ستكون انتخابات قوية، لكني أراها معركة في نظريات الفكر السياسي، فالحزب الجمهوري أمره حتمي بالاعتماد على ''الرأسمالية''، وبين الليبرالية... فالنظام الانتخابي القائم يفسح المجال للمال كي يشغل الدور الأساس في الحملات الانتخابية المكلفة، سواء على مستوى المحلّي أو الولاية أو على الصعيد الاتحادي، ويصل الإنفاق في هذه الحملات أرقاماً فلكية، تجعل تمويلها مدخلاً للمصالح الخاصة واللوبيات لتفرض أجندتها على السياسيين، فالسياسي الأمريكي المعاصر أصبح أسيراً للقوى المالية وبالتالي لا يستطيع اتخاذ قرارات أو تبنّي تشريعاً يتناقض مع مصالح المموّلين.
ويشغل بال المواطن الأمريكي الأزمة الاقتصادية التي جعلت الولايات المتحدة مفلسة وتعيش أزمة سقف الديون التي تتعمق وتتضخم من دون أن تظهر بوادر في الأفق على إمكانية تجاوزها قبل حزيران المقبل الموعد الأقصى لتفي الحكومة الفيدرالية الأميركية بالتزاماتها. وحسب المحللين فإن التضخم لا يزال يمثل هاجساً كبيراً لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي يخشى خفض أسعار الفائدة على المدى قصير الأجل نظراً لمخاطره طويلة الأمد. هاتان العقدتان، أزمة المصارف وسقف الدين، تستعصيان وتستحكمان، وفي هذا الإطار أقر اقتصاديو البيت الأبيض ومحللون مستقلون بأن سياسة ''حافة الهاوية'' الحالية والتخلف عن السداد في المستقبل يمكن أن يكون لهما تأثير مدمر على الاقتصاد الأميركي، ما سيؤدي إلى انهيار سوق الأسهم والقضاء على ملايين الوظائف.
ليس مستغربا أن يكون للازمة التي تعصف في الولايات المتحدة أبعاد سياسية، مقرونة بالهروب من الواقع كما اعتادت السياسة الأمريكية في عمقها، ولذلك اتّهم الرئيس الأميركي جو بايدن أعضاء الحزب الجمهوري باحتجاز الاقتصاد ''رهينة'' ، برفضهم تمرير زيادة حدّ الدين، ما لم يوافق هو أوّلاً على إجراء تخفيضات صارمة لميزانية البلاد، وذلك بالتوازي مع الإعلان عن ''كارثة'' قادمة وفق تحذير البيت الأبيض من ''أنّه في حال لم يتراجع الجمهوريون عن رفض رفع سقف الدين العام فإنّ الولايات المتّحدة ستشهد كارثة اقتصادية، إذا ما وقعت في حالة التخلّف عن السداد لفترة طويلة''. وهذا يمكن أن يجري استثماره في الانتخابات الرئاسية التي يتعاظم التنافس بشأنها.
ويراقب المواطن العادي بقلق التناحر بين العناصر المتشددة في الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الذي تسيطر عليه مجموعة من المتعصبين، هذا التناحر سبب الشلل في أداء الحكومة، كما سبب خللاً في البنية والنظام السياسي القائم. ثم إن حدّة الخلاف بين الحزبين يعكس الاستقطاب الحاصل بين المواطنين. لم يعد الخلاف السياسي تنافسا مقبولا بل أصبح محاولات إقصاء، والخطاب السياسي بين الجمهوريين الأمريكيين لا يهدف إلى توحيد الصف بل إلى تقاسم أميركا، والفرق شاسع جدّا في الفلسفة السياسية والاجتماعية بين الحزبين والاستقطاب الناتج عنهما، وبالتالي لا يبشّر ذلك على توافق ممكن في المستقبل القريب وحتى البعيد على حلول ناجعة للمشاكل والتحدّيات التي تهدد نسيج ووحدة المجتمع الأميركي.
أضف إلى ذلك التحوّلات داخل الحزبين وبخاصة الحزب الجمهوري حيث يفرد التطرف جناحيه، لتكون النتيجة ابتعاداً عن مقاربة المشكلات الجدية التي تواجه الولايات المتحدة، ما يهدّد مستقبل الولايات المتحدة ويجعلها تنحدر من موقع القوة العظمى، التي كانت تهيمن وحيدة على الساحة العالمية. ويعاني المواطن الأمريكي العادي من غياب الإعلام الموضوعي، فالإعلام المسيطر بمؤسساته الكبرى مملوك لعدد محدود من الأشخاص أو الشركات التي تمتلك المؤسسات الإعلامية من تلفزيون وراديو وصحف ومجلات واستوديوهات للسينما... الأمر الذي يعني أسر الرأي العام من قبل إعلام يسوّق مصالح تلك الشركات دون كبير اعتبار لمصالح الأمريكيين بمعظمهم. وأخطر ما يواجه الأمريكيين هو عسكرة المجتمع، وترسخ ثقافة العنف في المجتمع الأمريكي التي باتت تشكل خطورة في الوضع القائم، إنّ تفاقم الفجوة بين مكوّنات المجتمع الأمريكي وترسخ ثقافة العنف وحمل السلاح وعدم معالجة أي من الملفات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تتكامل الأسباب الموضوعية للانفجار الداخلي باتت وشيكة.
يضاف إلى ذلك إضافة ملف البطالة حيث يشكل قلقاً كبيراً لدى الناس العاديين، لاسيما أن معدّلات البطالة مرتفعة ولم تتحسن، رغم التلاعب بها لتخفيف وطأة الواقع. أما التعليم فقد تراجع مستواه في الولايات المتحدة وأصبح يهدد مستقبل أمريكا فلم تعد الولايات المتحدة الأولى في العالم في مستوى التعليم، بل تراجعت مرتبتها حسب الإحصاءات الصادرة في الولايات المتحدة نفسها، وهذا التراجع يؤثر على مستوى التنافسية الاقتصادية، فمستوى التعليم للفرد يؤثر بنسبة 30 بالمائة على الأقل في تفسير مستوى البطالة.
الناس العاديون في الولايات المتحدة ينظرون إلى مستقبل بلادهم بقلق شديدين، ويبدو أن الحلم الأمريكي ينتظره غد مليء بالشك، نلمح ذلك من خلال مواقف كثير من الأمريكيين غير المبالين بالانتخابات القادمة، على خلاف النخب السياسية والاقتصادية التي تتركز أولوياتها في تحقيق ما تريده القوى الممسكة بالقرار الأمريكي فعلاً، التي تموّل السياسيين ومراكز الأبحاث التي تسهم في صنع القرار. الناخب الأميركي لا يعير انتباهه كثيرا إلى السياسة الخارجية وشؤون العالم، فقط كل ما يثير اهتمامه هو توفير فرص العمل وخفض فاتورة التأمين الصحي، وحل مشاكله العقارية، وتنظيم شؤونه الحياتية، وغير ذلك، لأن الحياة لديه متعتها في توفير احتياجاته الشخصية بعيدا عن صخب السياسة وحساباتها الإقليمية، على النقيض تماما، لدينا في العالم العربي اهتمامات كثيرة بالانتخابات الأميركية، نتدارس أمورها، ونتعمق في فهمها، وننغمس في مناظراتها، ونتفهم برامجها، ونراقب نتائجها، رغم أن الأولويات مختلفة، فنحن نبحث عن الأرض والمصير، وهم يبحثون عن تفاصيل العيش من صحة ومسكن وحل مشاكل البطالة، والغالبية منهم لا يعلمون موقع الشرق الأوسط من خريطة العالم، فالقاعدة لديهم في انتخاب الحاكم هي مقدرته على تنفيذ وعوده وبرامجه.. المفردات والمصطلحات والتطبيقات التي ينتهجونها تختلف عن العالم كله، فالانتخابات نشاهدها ونراقبها على نيران الخبرة الإنسانية في رحلة الحياة، فيتم بينها التكامل بلا إقصاء، وتعطي الدروس في التنوع والثراء، فالصراع من أجل المواطن فقط وليس أي شخص آخر، رغم الاختلاف والتعارض بين الأصول والأجناس.. صراع يخلو من العنصرية، حتى وإن بدا أن هناك تناحرا واقتتالا.. إنها الانتخابات الأميركية التي تحمل في طياتها المأساة مع الملهاة، والجدية مع السخرية، والرصانة مع المجون.
لاشك أن مؤسسات صناعة القرار في النظام السياسي الأميركي تتنافر وتتقارب في مقارباتها للمصلحة الأميركية العليا، إلا أن السياق الثابت لتلك المصلحة ترسمه المنظومة الاستخباراتية ومعها القيادة العسكرية، وما التغيير الذي يمكن أن يُحدِثُه رئيس منتخب وإدارته على هذا السياق سوى حالة ظرفية مرهونة بمدى عمق أو سطحية علاقته مع تلك المنظومة والقيادة. قد تكون لُعبة انتخابية تَعكس مَظهراً ديمقراطياً، أو وَجهاً من أوجه مُمارسة الديمقراطية، غير أنها بالحقيقة ليست إلا خديعة كُبرى يُقدمها النظام الأميركي ودولته العميقة للعالم على نحو ساحر لجهة الممارسة الهوليوودية المَملوءة صخباً، ومشاهد تُوحي بوجود خلافات واختلافات جوهرية بين حزبين يَتداولان السلطة، يَهزم أحدهما الآخر، لكن المُثير أنّ السياسة الأميركية تَبقى واحدة لا تتغير مع تَغيُّر الإدارة! ربما من أهم الركائز الشيطانية للعبة الانتخابية ونمط إدارتها والتحكم بها، هو أن تُقدَّم على شكل عملية تنافسية حادة، تقوم على الفرضية إياها ـ طرف يهزم الآخر ـ بينما تُحاول الدولة العميقة العملَ باستمرار على ترسيخ الأمر كما لو أنه يَتطابق مع نظرية من يهزم من؟
خلاصة الكلام: مازالت الولايات المتحدة تواجه العديد من التحديات التي تحتاج إلى حلول يجب أن تكون جذرية، والأخطر من ذلك كله أن النخب الحاكمة سواء كانت في السلطة أو خارجها ما زالت عاجزة عن مقاربة جدّية للواقع. فحالة الإنكار متلازمة مع حالة الإرباك والملفات الحرجة التي تواجه النخب الحاكمة الأمريكية ما زالت دون معالجة ولو سطحية، وهذا ما يبدو في السياسة الخارجية. وبين العجز عن إيجاد حلول وبين تفاقم الأوضاع الداخلية حتى الخارجية، يبقى الأمريكيون أسرى القلق والشك وغياب التفاؤل.
كاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور الاخباري