المقال السابق

دولي الديوان الاميري ينعى أمير الكويت نواف الأحمد الجابر الصباح
16/12/2023

المقال التالي

لبنان  باسيل: التمديد استمرار للمؤامرة المتعلقة بالنزوح 
16/12/2023
خاص بيسان تزرع حلمها...والحصاد آت.. 

 سامية فضل الله_ناشطة اعلامية 

طوفان الأقصى.. فيضُ كرامة، وسيلٌ من بطولة.. كالنسور انقض أحرار فلسطين على المستعمرات الصهيونية المحيطة بغزة، ثأراً للأقصى والأسرى، ولكل المستهدَفين، مراراً وتكراراً، في أرضهم وأمنهم ورزقهم.. بحراً.. براً.. جواً.. في السابع من تشرين الأول، اشتعلت الأرض، كما السماء، تحت أقدام الصهاينة، وفوق رؤوسهم، وهم داخل مستعمراتهم.. لقد بدأ الطوفان.. وما بعده، أبداً، لن يكون كما قبله. 
٧ تشرين الأول من العام ٢٠٢٣م، تاريخ سيبقى في الذاكره.. يتذكره الفلسطيني فيزداد فخراً واصراراً وتصميماً على استرداد الحق المسلوب، مهما طال الزمن.. يتذكره الصهيوني فترتفع هرمونات خوفه، وتهتز ثقته بأمنه، وقوة دولته الرادعة.. تاريخ سيتذكره المطبعون واللاهثون خلف سلام مزعوم.. سلام لن يتحقق، مادام هناك أرض مغصوبة، وغاصب مجرم لم يزل يحلم بدولة تمتد من الفرات إلى النيل.. ستتذكره الأجيال التي لم تعي القضية منذ بداياتها.. به ستنتعش الذاكرة القديمة، وبه ستولد ذاكرة جديدة.. قضية فلسطين لن يطويها النسيان، والقدس ستبقى عربية، وللأقصى طوفان لن يهدأ..
ومن هنا كانت الحكاية..

- المكان: إحدى الشقق، في أحد الأبنية المتصدعة والمرممة، عشرات المرات، في أحد أحياء غزة.
- الزمان: يوم من أيام تشرين الأول من العام ٢٠٢٣م.
- الأبطال: عائلة فلسطينية.. أب وأم وخمسة أولاد، الكبير "أحمد" له من العمر ستة عشر عاماً، و"بيسان" أصغر فرد في العائلة، لها من العمر سبعة أعوام.

بدأ الليل يرخي أستاره على المدينة المفجوعة، في كل ما فيها، ومن فيها.. وأصوات الانفجارات القريبة والبعيدة، تتوالى، مختلطة بدموع ودماء، ودعاء واستغاثات.. كذلك ألسنة النيران تتصاعد من كل الأرجاء، ودخان كثيف وغبار أسود يلفان المدينة، فلم يعد هناك فرق بين ليل أو نهار.. اجتمعت عائلة أبو أحمد في إحدى غرف منزلهم، ذلك المنزل الذي تصدع مرات ومرات، لكنه مازال صامداً، كصمود من فيه، يقيهم التشرد والإقامة في خيم وأماكن عامة.. تحلقت العائلة حول ضوء شحيح ينبعث من سراج قديم، كانوا يتبادلون النظرات المتسائلة، ودقات القلوب المتسارعة، وبعض كلمات خافتة بالكاد تبلغ الآذان.. نهضت أم أحمد من مكانها، وفي نيتها أن تحضّر لهم أي شيئ يؤكل.. وجدت في مطبخها بضعة أرغفة، احتالت على يباسها برشها بالماء، زعتر وجبن.. مع كل لقمة كانت العائلة تبتلع الكثير من الغصات..
- ربما يكون عشاؤنا الأخير.. أساساً لم يعد لدينا ما يؤكل.. 
- ومن يهتم!! صدقيني لم أعد أهتم..
- أعتقد أنه لم يعد هناك غيرنا في المبنى، ألن نغادر؟ 
- إلى أين؟
- مكان يكون أكثر أمنًا..
ابتسامة خجولة، تحمل الكثير الكثير من الحسرة، ارتسمت فوق شفتي أبو أحمد، تبعتها تنهيدة طويلة، حمّلها كل ما في قلبه من ألم وغضب:
- عزيزتي.. هل تعتقدين أن هناك مكان آمن في غزة!! الصهيوني لن يفرق بين بيت أو مدرسة أو حتى مستشفى.. الوحشية مقابل الصمود، قدرنا وقدر أولادنا، كما الآباء والأجداد.. خمس وسبعون عامًا، والفلسطيني، كما العنقاء، يخرج من النار والرماد، في كل مرة، أكثر صلابة واصرار.. 
اقترب "أحمد" من والديه، وبملامح ولغة أنضجها الظلم والتجاهل: 
- أين الأشقاء العرب؟ أين المسلمون؟ أين ذلك العالم المتحضر الحر، الذي ينادي بحقوق الإنسان، ورفض العنف، وحق الدفاع عن النفس والأرض؟!! أين هي تلك المنظمات والهيئات، التي تتبارى في الدفاع عن حقوق الكلاب والقطط؟!! أليس من حق الفلسطيني أن يدافع عن وجوده، بكل ما يملك من وسائل؟!! مواثيق ومعاهدات واتفاقيات باليه، كُتبت بحبر الكذب والنفاق.. يريدون ارسال مساعدات انسانية إلى غزة؟! إذا استمر هذا الإجرام، هل سيبقى في غزة من يستفيد من هذه المساعدات؟! الأكفان لأهل غزة، والأموال والأسلحة المتطورة والدعم اللامحدود للصهاينة المجرمين.. أي مهزلة هذه!!!

- للأسف الشديد هذا هو الواقع، العنصري المتعصب له كل الحق، وكامل الحرية في إظهار حقده وكرهه علنًا، وبحماية أمنية وتأييدٍ دولي.. الصهيوني المغتصب يقتل ويدمر ويعتقل، عادي، إنما هو يدافع عن حقه في الوجود.. أما التعاطف مع القضية الفلسطينية، مع انتهاك حرمة الأقصى كل يوم، مع ما يجري فوق أرض فلسطين من إبادة جماعية وتهجير قسري، ولو بكلمة أو موقف، فهو مساندة للإرهاب ومعادة للسامية.. يا بني ليقف العالم كله ضدنا، يكفينا أن الحق معنا والله معنا.. 
التزمت أم أحمد الصمت، وأجالت نظرها في الغرفة المعتمة، تتزود من وجوه أولادها.. استقر نظرها على صغيرتها "بيسان" وقد جلست في إحدى الزوايا، تحمل لعبتها، ذات الملامح والملابس الفلسطينية، والمصنوعة يدويًا من قماش صوفي، ربما حاكتها لها جدتها ذات مساء، وهي جالسة في أحد المخيمات، تردد (تهويدات) مقدسية ويافوية وغزاوية.. كانت بيسان تحادث لعبتها، وهي بالمناسبة أسمتها "جنين"، اقتربت منها والدتها، واحتضنتها:
- حبيبتي.. لا تخافي نحن معك..
- أنا لست خائفة، بل غاضبة.. من حق أطفال فلسطين أن يعيشوا بأمان في أرضهم وبيوتهم.. من حقهم أن يتعلموا، ويكون لهم مدارس وجامعات، وأن يكون لهم أحلام وأمنيات، يرغبون في تحقيقها.. من حقهم ان يكبروا ويكون لهم مستقبل.. أنا سأتعلم وأكبر وأصبح محامية، وأدافع عن كل الأسرى في السجون الإسرائيلية.. الصهيوني لن يسرق مني حياتي، ويقتل حلمي..
لقد أعلنت "بيسان" الصغيرة عن موقفها، وصرّحت بحلمها الكبير..
- يا ابنتي.. لقد حلمت يومًا أن أكون معلمة، وفي إحدى مدارس فلسطين تحديدًا، ورغم المعاناة والظلم والتهجير وفقدان الأهل، تمكنتُ من تحقيق الحلم.. والآن عندي ما يشبه اليقين، أن حلمك سيتحقق إنشاءالله..
بدأت أصوات القذائف تتوالى وتعلو وتقترب.. تحلّقت العائلة حول بعضها، وأمسك كل فرد فيها بيد الآخر، وبدأت الشفاه تتمتم بالشهادتين.. آخر ما سمع في هذه الشقة المتصدعة صرخة "الله أكبر"، تبعها صوت الانهيار المروع.. المبنى بطبقاته الخمس أصبح ركام فوق ركام، والحي المنكوب لفه غبار يعلو غبار، وصيحات الاستغاثة ما زالت على حالها.. فقط:
- أبو أحمد وعائلته لم يغادروا شقتهم، أسرعوا لنتفقد المكان، لعل هناك من نجا..
تجمع أصحاب النخوة، وبعض المسعفين المتواجدين بالحي، وبدأوا بإزالة الركام، بأيديهم العارية، وعزيمتهم العالية، وما توفر لديهم من معدات بدائية.. ساعات وساعات من العمل والترقب والأمل، تمكن المسعفون من انتزاع جسد صغير نحيل ينبض بالحياة، من حضن أم فارقتها الحياة، فتلقفته الأيدي الرحيمة علها تمنحه المزيد من فرص النجاة.. ارتفع منسوب الأمل عند الجميع، فعاودوا البحث والتفتيش..

يوم جديد ارتفعت شمسه متشحة بالسواد، حداداً على ضحايا جدد، لعدوٍ شره لا يشبع من لحم الأطفال الغض، ولا يرتوي من دمائهم.. أما عائلة أبو أحمد فلقد لُفت بالأبيض، وتهيأت لعرس الشهادة.. علت الزغاريد، ووقفت "بيسان" تستقبل المهنئين، بعد أن ولدت من جديد، وخرجت من رحم الأرض لتحقق الحلم.. تحمل بيدها "جنين"، لقد احترقت وتغيرت بعض ملامحها، لكنها ما زالت تبدو فلسطينية.. 
فلسطين ليست عقيم، إنها تعيش المخاض العسير كل يوم، لتلد لنا الأبطال والمناضلين والحالمين، ولا تقبل أن تستقدمهم كيفما كان، ومن كل مكان. 

أطفال فلسطين.. ضاقت بكم الأرض، فاتسعت لكم السماء.. حلقتم على أجنحة الملائكة، تبحثون عن عائلة تحتضن طفولتكم المهجّرة.. عن إخوة يضمدون جراحكم النازفة.. عن أصدقاء يُوقظهم الظلم، ويَعي فيهم الضمير .. عن بيت تجدون فيه أحلامكم المسروقة، وأمانكم المفقود.. جئتم تبحثون عن وطن تغرسون فيه جذوركم، علكم غدًا تحصدون فيه المستقبل.. 
أطفال فلسطين، السماء معكم، ولكن.. ستبقى "فلسطين"، جرحكم وثأركم، هي لكم، أرضكم، وفوق ترابها ستزهر أحلامكم..


 

بريد المحور الاخباري

الكلمات المفتاحية

مقالات المرتبطة