*مصطفى قطبي
لقد حوّل النظام السعودي موسم الحج كغيره من الأعوام من عبادة إلى تجارة، ما حرم كثير من المسلمين من أداء أحد أركان الإسلام الخمسة، رغم تشوقهم لذلك هذا عدا عن (تسييس) هذا الطقس من طقوس العبادة عند المسلمين، وحجب حق أداء هذه الفريضة بقرار من آل سعود عمن لا يدور في فلك مصالحهم من سائر شعوب الأمة الإسلامية، كقرار منع الحجاج السوريين من أداء فريضة الحج هذا العام، ما خلق غصة عند كل من لم يستطع إليه سبيلاً.
لقد واصلت سلطات آل سعود هذا العام أيضاً التواطؤ مع ما يسمى ''الائتلاف المعارض'' فيما يتعلق بموسم الحج. حيث أعلن ''الائتلاف'' عن توقيعه مع وزارة الحج والعمرة السعودية على العقد الناظم للحج السوري، للموسم المقبل، وعن بدء قبول طلبات لتشكيل مجموعات موسم حج العام الجاري، ليتم بذلك حرمان الراغبين من المواطنين المقيمين في سورية من أداء هذه الفريضة. وفي تعد على صلاحيات الحكومة السورية، أعلنت ما تسمى ''لجنة الحج العليا السورية'' التابعة للائتلاف، والموجودة بتركيا، الأربعاء 25/12/2019 بدء قبول طلبات لتشكيل مجموعات موسم حج 1441هـ- 2020م. وأعلنت السعودية خلال الأعوام الثمانية الماضية من عمر الأزمة أن ''الائتلاف'' المعارض هو الجهة المخولة إصدار تصاريح الحج لمن يرغب في تأدية هذه الفريضة من السوريين، في اعتداء واضح على السيادة الوطنية السورية.
لقد استغل النظام السعودي وجود المناسك المقدسة لفرض سياساته، سواء بالترويج ونشر الوهابية أو من خلال حرمان حجاج هذه الدولة أو تلك من أداء الفريضة إذا ما رفضت تلك الدولة الانصياع لما تريده الرياض، والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، فالحجاج السوريون ممنوعون للعام الثامن على التوالي. وهنا أريد أن أتساءل:
متى كانت شريعة الله وسيلة في أيدي السياسيين؟ وكيف يمكن لهم أن يمنعوا الآلاف من السوريين من التوجه لأداء هذه الفريضة المقدسة، ويسمحوا فقط لجماعات لها اتجاهات مشبوهة وأخرى مسلحة؟ ومتى كان أداء المناسك حكراً على أحد دون غيرهم في أي بلد من بلاد الدنيا؟ ألم يقرؤوا قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). سورة البقرة:114، ثم ألم يتلوا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ). الحج: 25.
إن الحج فريضة من فرائض الإسلام وهي خالصة لله تعالى قال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [سورة البقرة:196. فلا يجوز منعها بمجرد الخلاف أو المعارضة أو حتى الاقتتال؛ وليس لأحدٍ أن يمنع أحد من أداء فريضة دينية مهما كانت أسبابه فإن فعل ذلك فقد استحق صفة الظلم والصد عن سبيل الله وبالتالي استحق العاقبة التي بيّنتها الآية وهي الخزي والعذاب الأليم.
واقع الحال اليوم يقول، إنّ السوريين ممنوعون من الحج إلى بيت الله الحرام وتقديم الهدي منذ ثمان سنوات في هذه الظروف التي تمر بها الأزمة السورية، وهذا يثير سؤالاً آخر، في منتهى الأهمية:
هل يحق لدولة شاءت التقسيمات الغربية والدعم الاستعماري أن تكون الأراضي المقدسة في أراضيها حيث تقام شعائر الحج ويفد إليها الحجيج أن تمنع شعباً بأكمله من المجيء إلى الكعبة المشرفة لتأدية فريضة الحج؟ بل هل يحق لها أن تمنع أي مسلم في العالم من أن يؤدي مناسك الحج الذي هو واحد من أركان الإسلام بحجج واهية، ودعاوى سياسية كاذبة، ومن زيارة الحرمين الشريفين؟
إن اعتبار الأماكن المقدسة الإسلامية في المملكة السعودية ملكية خاصة للدولة التي تقع هذه الأماكن في أراضيها هو أمر في منتهى الخطورة، وهو خروج تام عن الإسلام وتعاليمه وأهدافه. ولا أدري لم لا يحرك المسلمون في أنحاء الأرض ساكناً حول أمر خطير كهذا ويدعون ـ وهذا ضرورة ـ إلى أن توضع الأماكن المقدسة الإسلامية في المملكة السعودية تحت إشراف إسلامي ويكون لها وجودها الديني والسياسي المستقلين عن تحكم المدّعين بالإسلام وهو براء من مثل هذه التصرفات البعيدة عن روح الدين؟
منذ أن أقام إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل عليهما السلام دعائم البيت الحرام والحجاج يتوافدون للحج من مختلف أصقاع الأرض. يقول تعالى: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات''.الحج 27.
في الجاهلية وبالرغم من اختلاف أديانهم وإيمانهم فمنهم الوثنيون ومنهم الأحناف، لم يجرؤ أن تمنع أية قبيلة أحداً من الحج إلى بيت الله الحرام، وحتى المسلمون في عهد الرسول (ص) في بداية انتشار الإسلام جاؤوا إلى مكة لأداء العمرة، وكانت مكة بيد المشركين من قريش لم يجد المشركون حجة لمنعهم، وتم الاتفاق بعد صلح الحديبية إلى أن يعود المسلمون في العام التالي لأداء مناسكهم. حتى المشركون في الجاهلية قبل الإسلام لم يمنعوا أحداً من الحج، وكانت قريش سيدة مكة، وقبلها خزاعة، تستقبل الحجاج بحفاوة وسخاء وكان بنو هاشم بن عبد مناف يقومون على خدمة الحجاج وإطعامهم على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم وأطيافهم، وأيام الحج منذ الجاهلية هي أيام حُرم لكونها أياماً دينية ينصرف فيها الإنسان إلى أداء مناسك الحج، ولذلك تعدّ أعياداً، يعمد فيها الناس، بعد إقامتهم الشعائر الدينية المفروضة وبعد أدائهم القواعد المرسومة، إلى الفرح والسرور وتعييد بعضهم بعضاً.
كان رجال مكة يقومون بالإنفاق على المحتاجين، وعدّوا ذلك ديناً ومروءة وشهامة، وجعلوا الصدقة وإطعام المحتاج من أمور الدين، وقد اختص بنو عبد مناف سدنة الكعبة المشرفة برفادة الحجاج، أما اليوم فيتخذ سدنة الكعبة الجدد الحج وسيلة للكسب وإرهاق حجاج بيت الله الحرام بالضرائب والمكوس وقد خلطوا الدين الحنيف بالسياسة واعتبروا الكعبة المشرفة ملكية خاصة للدولة، وزادوا على ذلك السماحَ لمن يريدون ولمن يمالئهم سياسياً بالحج، والمنعَ لمن يكرهون ممن يبتغون فضلاً من الله بتأدية واحد من أهم أركان الإسلام.
لاشك بأن الشعب السوري ومنذ ثمان سنوات حرم بشكل ظالم لم يسبق له مثيل في التاريخ من هذه المشاعر الإيمانية ومن أداء ركن الحج والعمرة. وإن مُنع من الحج إلى بيت الله تعالى من قِبل البشر فإن نوايا هذا الشعب الصامد والمؤمن بقضيته، يعلمها ربّ البشر وهو الذي يُثيب عباده؛ فهناك أعمال تكتب لهم ثواب الحج وإن لم يحجوا. وفي سورية الحبيبة، هناك أُناسٌ كُثر يقومون بأعمالٍ توازي بل وتزيد في ثوابها على ثواب حج النافلة لبيت الله تعالى، فيواسون فقيراً ويكفلون يتيماً ويرعون مُسناً ويبنون بيتاً تهدم، يرسمون البسمة على وجوه الحزانى والثكالى؛ فلله الحمد أن جعل مفاتيح خزائن رحمته بيده دون غيره وإلا لهلك الناس؛ فله الحمد وعليه التكلان.
في ظل ما نحن به، والدور الوهابي المتصاعد على ساحة إهدار الدم العربي، وتعطيل ركن أساسي وهو فريضة الحج للسوريين، فلابد من وجوب إدارة للمقدسات الإسلامية بعيداً عن الخلفيات الوهابية التكفيرية، فالضرورة تقتضي تحييد المدن الدينية والأماكن المقدسة بعيداً عن الأنشطة السياسية الوهابية المتغيرة، وإعادة الدور التوفيقي للحجاز الذي أصبح منتدى للأفكار الوهابية المتطرفة وتحولت أرض الحجاز الإسلامية إلى كيان لا هوية له، بعدما كانت تحتوي جميع المذاهب والمدارس الإسلامية. والحل يكون بإعادة الاعتبار للمدن الدينية والعتبات المقدسة والسلطة المعنوية للحجاز بتأسيس لجنة دولية إسلامية متضامنة للإشراف على الحج وأن يكون لها دوراً محورياً في حماية المقدسات الأخرى في العالم الإسلامي.
فمكة المكرمة والمدينة المنورة يجب أن تكونا تحت سلطة دينية وليست سلطة سياسية جغرافية، مثلها كمثل الفاتيكان بالنسبة للإخوة المسيحيين في العالم فهي مفصولة عن أي قرار سياسي في العالم وما موقف البابا فرنسيس الأول تجاه الأزمة السورية إلا شاهد على استقلالية قرار الكنيسة. فالحج لبيت الله والسياسة لأهل الأرض، وبهذا لا تتأثر هذه الأرض المقدسة بأي مزاج سياسي فقط لأنها تقع تحت سلطته الجغرافية...؟!
فالأماكن المقدسة لم تكن يوماً ملكاً لأحد... ومن منطق الشريعة ألاّ يحكمها مزاج سياسي ما... من شريعة المنطق أن تعطى هذه الأماكن المقدسة في جغرافية محددة ما يلزمها بدور الأب الروحي لجميع المسلمين في العالم والسؤال: هل هذه الدولة تقدم هذا الدور!؟ ومن منطق اقتصادي، توافد المسلمين على هذه الدولة ليس إلا لوجود تلك الأماكن المقدسة فيها ما يخلق ريعاً اقتصادياً كبيراً هي ليست أصلاً بحاجته لأسباب اقتصادية معروفة… وهنا أليس من الواجب أن توجه هذه المداخيل إلى البلدان الإسلامية التي تحتاجها؟
وأخيراً وليس آخر، فالحج ركن أساسي من أركان الإسلام لا تستطيع دولة ولا نظام ولا السياسة أن تسيّس هذا الركن، وأنه يجب تخليصه من أن يكون خاضعاً لأهواء أو رغبات أو لقرارات أو لأسس سياسية باعتباره جزءاً من إسلام المسلم لا يصح الإسلام إلا به.
*باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور