*مصطفى قطبي
انفض الاستحقاق الديمقراطي الذي عاشته إيران يوم الجمعة الماضي، الاقتراع النيابي في دورته الحادي عشر والانتخابات النصفية لمجلس خبراء القيادة في دورتها الخامسة. ومرت هذه الانتخابات بهدوء وسلام. وأعلن وزير الداخلية الإيراني، رحمان فضلي، في مؤتمر صحفي الأحد الماضي، أن نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بلغت 42.57 بالمئة. وأوضح أن نسبة مشاركة النساء بلغت 48 بالمائة ونسبة مشاركة الرجال 52 بالمائة. وأضاف فضلي ''24 مليونا و512 ألفا و404 أشخاص شاركوا في الانتخابات التشريعية في جميع أرجاء البلاد''.
في كل مرة كانت تجري فيها الانتخابات في إيران ولو على مستوى أقل من مجلس الخبراء أو مجلس الشورى، تبرز محاولات وتعقد مراهنات على إحداث تصدعات وانقسامات وانشقاقات وصولاً إلى زعزعة الاستقرار في الدولة والمجتمع وإضعاف الجبهة الداخلية، وكان الضخ الإعلامي والدعائي المعادي يركّز على أنه ''لا فائدة من انتخابات كهذه معروفة نتائجها سلفاً'' ومحكومة بما يسمونه ''الاستبداد الديني'' وذلك بهدف مركزي وهو إبعاد الاهتمام بأي انتخابات وتقليل ما أمكن من نسب المشاركة الشعبية بها. ولا يعيب الحياة السياسة في إيران وجود تنافس ساخن بين تيارين لهما توجهان داخليان مختلفان هما التيار الإصلاحي والتيار المحافظ، بل يعدّ هذا عامل صحة وعافية وعامل قوة، ولكن في كل دورة انتخابية تحاول الأبواق الغربية بث الفتنة بين التيارين بأساليب مختلفة لكن الرياح تجري دائماً بما لا تشتهي سفنهم.
المنافسة القوية بين الاصلاحيين والمحافظين، كشأن الانتخابات دائماً ما يكون هناك فريقان قويان، على الأقل يتنافسون في العملية الانتخابية وجذب أكبر عدد من الناخبين من خلال ما يقدمه كل حزب أو تيار من أفكار وبرامج. وفي إيران كما في كثير من البلدان الديمقراطية، ما يعرف بالتيار الإصلاحي أو المعتدل والتيار المحافظ أو المتشدد. وربما يتقارب المعتدلون من داخل التيارين الرئيسيين في العديد من القضايا والأمور العامة على الصعيد الداخلي. وإن كان هناك فروق بين التيارين من حيث علاقة الدين بالدولة أو بالسياسة. فما يعرف بالإصلاحيين يرغبون بعدم هيمنة الدين على السياسة. وأن يكون هناك شبه فصل بين الدين والسياسة (كما هو حال ما يعرف بالعلمانيين أو الليبراليين في بعض البلدان العربية). أما أصحاب التيار المحافظ فيرى عدم انفكاك العلاقة بين الدين والدولة وهيمنة الدين على شئون الحياة والدولة والمجتمع.
لقد تمكنت الانتخابات الإيرانية الجمعة 21/02/2020، بل تمكن الشعب الإيراني من قذف أحجاره في أقدار مواخير السياسة الأميركية والأوروبية وعملائها من عرب الجنسية، ليفيض خارجها ما ركد من القذارة والوسخ والحقد والكراهية والغيظ، وحجم الابتذال والكلمات المستهلكة عموماً في أسواق إعلام الرجعية والغرب الامبريالي الاستعماري، وذلك حين حرص الشعب الإيراني على الخروج جماعات ووحداناً ليعبر عن إرادته وحريته، ويضع في صناديق الاقتراع ورقة من استقر عليه عقله وفكره، متحدياً كل أشكال التضليل الإعلامي التي مورست لمنعه، واضعاً حدًّا لسخافات الأحاديث الديمقراطية الغربية والرجعية التي حاول التلطي وراءها.
وليس من المبالغة في شيء القول بأن وعي المواطن الإيراني، الذي عبر عن نفسه بوضوح في الحرص على المشاركة في عملية التصويت، وفي الالتزام بقواعد التصويت وإجراءاتها المحددة، كان له الأثر الكبير كذلك في إتمام هذا العرس الديمقراطي على نحو أكد من خلاله قدرته ومسؤوليته وحرصه التام على ممارسة حقه الانتخابي. وجرت الانتخابات في 55 ألف مركز اقتراع، في إطار 208 دوائر انتخابية في مختلف أنحاء البلاد، حيث بلغ عدد الذين يحق لهم التصويت في هذه الانتخابات نحو 58 مليوناً، من ضمنهم ما يقرب من 3 ملايين لأول مرة بعد بلوغهم السن القانونية للتصويت وهي 18 عاماً.
وإذا قارنا ذلك بالانتخابات السابقة، فكلنا نتذكر الاحتجاجات التي اندلعت في الشارع الإيراني وقتها، مع حملة التحريض والتبني الإعلامي الخليجي والعربي والغربي لتلك الاحتجاجات، ولا ننسى كيف ظلت قناة ''العربية'' مثلاً تنفخ في نار تلك الأحداث شهوراً طويلة، حتى بعد أن خفتت وانطفأت، حيث صَعُبَ يومها على الخليجيين فقدان تلك الفرصة لإشعال النار في جارتهم إيران، فلماذا هذه المرة لم تخرج أي احتجاجات مشابهة... برغم احتدام الصراع بين أمريكا وإيران بعد الضربة الإيرانية لقاعدة عين الأسد، وبشأن سورية والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان...؟!
إحدى المفارقات التي يمكنها، إلى حد بعيد، تفسير سياسة العداء التي ينتهجها النظام الرجعي العربي ضد إيران، تكمن في العلاقة الجيدة التي كانت تربطه بنظام الشاه الذي أسقطته الثورة الإسلامية، والذي كان، مع الكيان الصهيوني، حجر الزاوية في استراتيجية الهيمنة الأمريكية على المنطقة. يعني ذلك، ببساطة، أن إيران تحولت إلى العدو الأول للرجعية العربية، ما أن أخرجتها الثورة من الفلك الأمريكي الإسرائيلي الذي كانت تدور فيه، ورفعت في عاصمتها علم فلسطين.
في الأحداث التاريخية، لا يصح اجتزاء الصور، ولا حسم الإجابات، فلكل تطور أو تغيير، مقصوداً كان أم عفوياً، جملة من الدوافع والعناصر الفاعلة قد ندرك جلها، ولكننا بالتأكيد لن نصيبها كلها.
في إيران لا بد من أن هناك جهوداً بُذِلت، وخطط عمل وضعت ونفذ شيء منها، ومنذ الانتخابات السابقة لتفادي تكرار السيناريو ذاته. نحن لن نجزم بأن هذه الإجراءات كانت كلها معيشية وسياسية، ولكن لا بد من أن هناك تدابير وعوامل أمنية أيضاً تم العبور فيها، وتبقى العبرة في النتائج، والتي كانت حسنة بالنسبة لإيران الدولة والشعب، فالفوضى والصدام سيكونان عاراً، ولاسيما عندما يكون البلد مستهدفاً وبوضوح خارجياً.
في الإطار والسياق نفسيهما يأتي من وجهة نظرنا ارتفاع مستوى الاستعداء والاستنفار في المنطقة ضد وحول إيران، ليشكل عاملاً حاسماً أيضاً، إذ لا بد من أن يؤدي هذا الاستعداء إلى اتحاد أغلبية الشعب، ولاسيما في شعب عريق ذي شعور قومي يتصف بالاعتداد، هذا الاصطفاف الوطني في مواجهة الخارج، دائما يشكل خشبة الخلاص في الأمم الحية ضد سيناريوهات التقسيم والشرذمة التي ترسمها القوى العظمى ضد هذا الشعب أو ذاك. كما أن الشعب المتفوق حضارياً والقادر على صناعة نهضته ذاتياً، لابد من أن يتعلم من الأحداث المحيطة به، ومنطقتنا اليوم تعيش حدث ''صفقة القرن''.
حين تقرأ العلاقة بين الحاكم وشعبه تستقرئ الحكاية، وحين يتمسك الشعب بحاكمه تظهر المفاجأة، وإذا علم الحاكمُ أن الشعب يحبّه يكتمل المشهد، استقراء طبيعي ومنهجي لحياة مليئة بالحوار والتشاور، والجلوس المباشر مع قمّة الهرم، ذلك ما قرأته في إيران الإسلامية، الذي عرف كيف يعيش في ظل التوتّرات العالمية والإقليمية، وكيف يساير الأحداث بحكمة واقتدار، آمن بأن السّلم بوابة الأمان، وبعد أن بسط الأمن والأمان في ربوعه اتجه للشعب لينصت.
حين يخاطبك الإيرانيون حتى في أحاديثهم العادية جداً يقولون ''نحن'' ويخاطبونك بـ''أنتم'' حتى لو كنت شخصاً واحداً. فقد كنت أعتبر أن هذا الأسلوب هو أسلوب مؤدب وحضاري في المخاطبة، وهو كذلك دون أدنى شك، ولكنه أكثر من ذلك بكثير كما تبين لنا من تجربتهم في التفاوض مع الغرب.
تبين اليوم أن الـ''نحن'' هي في بنية العقل والتصرف الإيراني والثقافة الإيرانية الاجتماعية والسياسية في حين إذا أردنا أن نكون واقعيين وصريحين فإننا نستنتج أن الـ''أنا'' العربية أيضاً متجذرة في الذات العربية التي لا تقيم وزناً للـ''نحن'' وأن أي إنجاز يتم نسبه للفرد بدلاً من الجماعة وأن التركيز الجمعي على المصلحة الوطنية العليا حيث يذوب الجميع في خدمتها وتجسيدها مازال بعيد المنال.
لقد أثبتت نتائج الانتخابات الإيرانية، وما عبّرت عنه من إرادة شعبيّة، ومواقف حكام الغرب في معاكسة هذه الإرادة، أنّ في الغرب حكاماً فاسقين ضالين، وأنّ هؤلاء الحكام الكذابين يحاولون تضليل شعوبهم وكلّ شعوب العالم الأخرى، من أجل تنفيذ خطط شيطانية صهيونية جاء بهم أصحابها إلى سدّة الحكم من خلال التلاعب بالرأي العام والتحكم بتوجهاته من خلال احتكار وسائل الإعلام، وأنّ هؤلاء الحكام مثل شعوبهم لا يملكون فعلياً حريّة الرأي ولا حريّة الإرادة، ولا يمكنهم الادّعاء بأنهم نتاج منهج ديموقراطي صحيح، أو أصحاب قول صادق صريح.
فالشعب الإيراني لا ينتظر من الغرب الاستعماري أن يشهد له، ولا يكترث ولا يبالي إن شهد حكامه وأوغادُهُ ضدّه، ولا يعودُ ذلك فقط لأن الغرب عدو له يتوجّب عليه أن يتّخذهُ عدواً، ولكن أيضاً لأنّ الشعب الإيراني يعرف أن عقول حكام هذا الغرب أسيرة ومعتقلة، وأن حريتهم وحرية شعوبهم مستلبة ومهلهلة...
ليس ما أكتبه هنا دفاعاً عن الديمقراطية الانتخابية في إيران وإنما دفاع عن المنطقة والواقعية في التفكير وبخاصة المنهج المقارن، ورفضاً للنمطية (الستيريوتايب) وازدواجية معايير التقييم...
وما يهمني هنا أن ''شكلانية الديمقراطية'' في إيران لا تزيد عن شكلانية الديمقراطية في الولايات المتحدة وبريطانيا، ما يعني أن مصداقية الأولى لا تقل عن مصداقية الثانية. المنهج المقارن يمنع من استخدام المعايير المزدوجة في التقييم. لا يمكن أن نستخدم في إيران معايير المدينة الفاضلة وفي أمريكا وبريطانيا معايير الواقعية السياسية... صحيح أن الديمقراطية الإيرانية لا تشذ عن مجمل القواعد الفكرية للنظام السياسي لكن هل الديمقراطية الأمريكية تشذ عن القواعد الفكرية للنظام السياسي الأمريكي؟ بأي حق يكون ''في أمريكا ديمقراطية وفي إيران استبداد''؟
خلاصة الكلام: هنيئاً دائماً لإيران التي خاضت تجربتها الانتخابية مرة أخرى وبنجاح كبير، وحقق فيها الشعب الإيراني كعادته أسلوب حياة ترسخت، ونظام فهم ووعي وروحية دائمة الألق.
*باحث وكاتب صحفي من المغرب
بريد المحور