- النهار | ابراهيم بيرم
لا يذهب "حزب الله" بعيداً في ظنونه وهواجسه في شأن المواجهة الجديدة بينه وبين رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ولا يأخذها، كما درج البعض، على محمل ان جنبلاط بات يستشعر ويستشرف ان ثمة تحوّلات عاصفة في الاقليم تسير رياحها في اتجاهات مغايرة لمصالح الحزب، فبادر الى أخذ المبادرة بصدره وقرر ان يعود الى أداء دور"رأس الحربة" الذي اضطلع به بين عامي 2005 و2008، فالظروف مختلفة والادوار مقلوبة.
وعليه، يكوِّن بعض رموز "حزب الله" من خلال عملية رصد متكاملة لـلحركة الجنبلاطية الاخيرة استنتاجاً فحواه: "ان الهواجس والمصالح الجنبلاطية المحلية هي التي حدَت به الى هذا "السلوك العدواني". لذا فالامر بالنسبة الى الحزب تحت السيطرة لاحقاً، وأفق المعالجة والاحتواء ليست مقفلة، وبالتالي لسنا في وارد الانزلاق الى دائرة المواجهة الاعلامية المفتوحة".
وفي المقابل، لا يجد الحزب نفسه مخطئاً أو مقصراً عندما لم يكلّف نفسه عناء الرد على نفي صفة اللبنانية عن مزارع شبعا، فمثل هذا الكلام لن يغير من الوقائع الجغرافية - التاريخية لهذا الحيّز من الجغرافيا اللبنانية والعائدة ملكيتها بحجج وصكوك الى لبنانيين، اذ كان لا بد من ان يُترك جنبلاط وجهاً لوجه أمام رأي عام واسع يتجاوز حدود الطائفة الشيعية، ويرفض رفضاً قطعياً مثل هذا الكلام الاستفزازي ويعتبر انه يبرر الاحتلال الاسرائيلي لهذه الارض التي تُعدّ قصر مياه استراتيجياً، عدا عن أهميتها السياحية والزراعية.
ثم إن الحزب بات يعتبر نفسه خبيراً متضلعاً من قواعد اللعبة التي ينطلق منها الزعيم الجنبلاطي في حركاته وسكناته السياسية، لذا لم يبادر بداية الى الدخول معه في مساجلة إعلامية، وهو أمر يعي انه يبعث الاستياء في نفس جنبلاط ويزيد منسوب حنقه، ما يدفعه الى الخروج عن طوره و"التغميس خارج الصحن" فيدخل في حيّز المحظور والخطأ ويزيد مخاوف الناس من احتقانات داخلية وتداعياتها المحتملة.
إذاً، "لعبة" الحزب مع زعيم التقدمي باتت تعتمد على نظرية "الاعصاب الفولاذية" في مواجهة حملاته، فلا يبادر الى التراجع ومن ثم التجاوب مع مطالبه الظاهرة والمبطّنة، ولا قرار بمساجلته في انتظار ان يفرغ كل ما في جعبته وبعدها فان لكل حادث حديث ولكل مقام مقال. الى ذلك، فان الحزب يعرف تماما حراجة "الوضع الجنبلاطي" في المعادلة الداخلية الحالية، ويدرك ايضا ان الزعيم الاشتراكي اوشك ان يحرق مراكبه مع حليفه التاريخي، أي رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان دوماً ملجأه وملاذه في اللحظات الصعبة، يدوِّر له الزوايا ويهدّىء مخاوفه، وقبلها دخلت علاقته مع "بيت الوسط" عتبة الفتور، بل ربما دخلت عهد القطيعة المضمَرة. اما علاقته مع "التيار الوطني الحر" فهي موسمية أو "على القطعة". واما الثقة المهتزة بينه وبين معراب، فانها لم تتبدل وتتحول يوماً بفعل تناقضات الماضي والحاضر. وعموماً فان لدى الحزب استنتاجاً مفاده ان السنة التي انقضت على الانتخابات النيابية لم تكن "سنة السعد" لجنبلاط، فهو بدا وكأنه خارج كل المعادلات والحسابات، ولم يعد ذاك "الصبي المدلل" وبيضة القبان الذي يهرع الجميع لاسترضائه اذا استشعروا انه منزعج او لديه ما يطالب به. ورفع من منسوب انزعاجه ان بعض شركائه لم يعودوا يعارضون ويمانعون بالحدّة نفسها عودة الانفتاح على دمشق، فشعر انه يمكن ان يظل وحيداً.
ولهذا كله اندفع جنبلاط الى المربّع الاول الذي يقلق ويبعث الازعاج، وهو ربما وجد ان الافضل والانسب له ان يفتح باب المواجهة مع الحزب استهلالاً انطلاقاً من حسابات عدة ابرزها:
- ان الحزب هو الطرف الاقوى، لذا فان "الدقَّ به وافتعال المواجهة معه" من شأنه ان يخيف الآخرين ويجعلهم يعيدون مراجعة حساباتهم.
- ان جنبلاط يدرك في عقله الباطني ان الحزب هو الأرفق به كونه أخذ قراراً منذ زمن بتجنّب فتح أي اشتباك معه نظراً الى حاجته اليه، فضلاً عن ان الحزب هو الآن في موضع "المحشور" اقليمياً بفعل الضغوط الاميركية المتصاعدة عليه وحاجته الى إبقاء جسور العلاقة قائمة مع كل الاطراف الداخليين.
ربما المدخل المباشر للاشتباك هو ترخيص وزير "حزب الله" السابق حسين الحاج حسن لمعمل الاسمنت في الباروك والعائدة ملكيته الى الاخوين فتوش حليفَي الحزب التاريخيين. وهنا تُدرج المسألة في سياق الامر الواقع الصعب الذي يشقّ عليه الارتضاء به لمحاذير عدة ابرزها: - ان هناك تمدداً لآخرين في مناطق محسوبة عليه بالكامل.
- وهناك ايضاً خطر مستقبلي كامن على معمل الترابة في الساحل الشوفي في سبلين، إذ ثمة احتمال كبير ان تتحول شركات الإعمار والبناء في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لاحقاً لشراء حاجتها العالية من الاسمنت من معمل الباروك لأكثر من سبب بدلاً من معمل سبلين كما هي الحال منذ اعوام.
وهنا يذكر البعض قصة الهجمات الشرسة التي كان جنبلاط يشنّها بعد عام 2005 على آل تاج الدين ومشاريعهم الاعمارية الضخمة، والتي وصلت الى حد اتهامهم ببناء ما سمّاه "مستوطنات شيعية" على الطريق الساحلي وفي حاصبيا وسواها. وعندما توقفت تلك الحملة الجنبلاطية فجأة، بحث البعض عن الاسباب فوجدوا ان آل تاج الدين قرروا ابتياع جزء من حاجة مشاريعهم من الترابة والاسمنت من معمل سبلين، فانتهى الامر وكأن شيئاً لم يكن وانعقدت علاقات صداقة بين الطرفين.
في أي حال، فان الاستنتاج الذي استقر عليه الحزب هو انه حدد منذ زمن ما يسميه "الدوافع الثلاثة" التي تحرك جنبلاط وتتحكم بكل لعبته السياسية صعوداً او هبوطاً. ولكن ما لا يخفيه الحزب هو انه اختار هذه المرة ان يدير الاذن الطرشاء لجنبلاط، لا ان يبادر كما هي العادة الى الوقوف على خاطره وليكن ما يكون، فليس من الضرورة ان تكون عملية "مراضاة الخواطر ومراعاتها" هي السياسة الحكيمة والحصيفة دوماً.