* مصطفى قطبي
على زمن ترامب أصبحت القرارات الأميركية كما يقال على السجية ودون رؤية بعيدة المدى وبلا نظرة استراتيجية... وهذه المرة جاءت على أثر الانهيار الأول من نوعه في الاقتصاد الأمريكي الذي حل بسبب الحجر الصحي الذي عانت وتعاني منه حتى الساعة كل الولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية تفشي كوفيد 19 في الولايات المتحدة الأمريكية، وما رافقه من انخفاض بأسعار النفط الأمريكي لأدنى مستوياته على مدار التاريخ... وخير شماعة يحاول ترامب تعليق أخطائه عليها هي منظمة الصحة العالمية.
فقد أصدر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الجمعة 29/05/2020 قرارا بإنهاء العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية. وقال ترامب في مؤتمر صحفي نقلته وكالة ''أسوشيتد برس'' الأمريكية، أن الولايات المتحدة قررت إنهاء علاقتها مع منظمة الصحة العالمية، لأنها منظمة لم تقم بإصلاحاتها الملائمة لمواجهة فيروس كورونا المستجد، وتتساهل بشكل مفرط مع الصين.
وخلافاً للمنطق السليم بأن المحن تجمع ولا تفرق، يذهب ترامب إلى تأجيج أقصى أنواع التوتر انطلاقاً من روح الكيدية والانتقام والتشفي من دون أي اعتبار لأرواح البشر، بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم، الذين تصدروا العالم في عدد الإصابات بالوباء العالمي. أما أنّ "الصحة العالمية" ضَللت أميركا، أو أنها قدّمت للعالم مَعلومات خاطئة عن وباء كورونا، فهي الذريعة الساقطة التي يَنبغي أن تَخجل الإدارة الأميركية من سَوقها ومن التَّذرع بها، إذ لا يُمكن لأحد أن يَفهم المُعادلة: أميركا الدولة الأكثر تقدماً ونفوذاً وسَطوة، وادّعاء كاذباً من أنها تَحتل المراكز الأولى في العالم على كل المُستويات، تُضللها - أو يتمكن أحدٌ من تَضليلها - مَعلومات صادرة عن هذه الجهة أو تلك، وهي من يَستهدف العالم بالتضليل؟!
وتعد هذه الخطوة الترامبية جزءاً من عقيدة الرئيس الأمريكي في السياسة الخارجية الانعزالية المتمثلة بـ ''أمريكا أولاً''، التي تسعى إلى الانسحاب من المؤسسات المتعددة الأطراف وتقويضها وإهمالها، فضلاً عن تعليق تمويلها وتحويل مبالغها نحو اجتذاب الناخبين، لذا على الشعب الأمريكي ألا يصدق هذا الهراء، الذي يعكس افتقار واشنطن لمهارات القيادة.
وهذه ليست المرة الأولى لممارسات ترامب اللا أخلاقية على المستوى العالمي، فقد اعتمد ثلاثية ''انسحب، عاقب، فاوض'' فانسحب من المعاهدة الدولية للأسلحة التقليدية عام 2013 أعقبته سلسلة انسحابات من بعض المنظمات والاتفاقيات الدولية التي كانت الولايات المتحدة قد وقعته، وانسحب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وهي أول اتفاقية ينسحب منها الرئيس الأمريكي بعد تنصيبه في كانون الثاني 2017، حيث تمثل الاتفاقية حوالي 40 في المائة من إجمالي الاقتصاد العالمي، و26 في المائة من التجارة العالمية بقيمة تزيد على 11 تريليون دولار، وتستهدف إزالة الحواجز التجارية من الدول الموقعة على الاتفاقية، وخفض وإلغاء الرسوم الجمركية على حوالي 18 ألف سلعة صناعية وزراعية بما في ذلك المنسوجات والملابس.
وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ ومن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ''يونيسكو''، متهمة إياها ''بالانحياز'' لفلسطين على حساب إسرائيل. وفي أيار من عام 2018 انسحب من الاتفاق النووي الإيراني والذي استمر على الرغم من انسحاب واشنطن منه، ثم أعلن ترامب عن طريق سفيرته في الأمم المتحدة انسحاب بلادها من عضويتها في مجلس حقوق الإنسان الدولي، بحجة اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة مواقف متحيزة ضد إسرائيل. وكان ترامب قد أعلن أن الولايات المتحدة ستعلق جميع التزاماتها بمعاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة وقصيرة المدى، والبدء في عملية الانسحاب من المعاهدة، أيضا انسحب ترامب من اتفاقية الأجواء المفتوحة.
وأخيراً جاء قرار ترامب بإنهاء العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية، ليكشف انهيار غطرسته في ظل عجزه الصريح عن منع تفشي الوباء في بلاده فألقى باللائمة على الصين ومنظمة الصحة العالمية. ومن الواضح، أن قرار إدارة ترامب، وإن كان ظاهره مالياً، لكون بلاده قدمت ما نسبته 14.67 بالمائة من الميزانية الإجمالية للمنظمة للعامين 2018 و2019 والتي بلغت 5.62 مليارات دولار، إلا أن القرار لا يخلو من استغلال سياسي للدول في الأمم المتحدة، إذا ما لوحظ النشاط المكثف والمتواصل للصين التي بلغت مساهمتها خلال السنتين المعنيتين ما نسبته 0.21 بالمائة من الميزانية الإجمالية للمنظمة، مع دول القارة الإفريقية بصورة خاصة والتي تحظى بأكبر المساعدات من منظمة الصحة العالمية.
والديناميكية الأولى لفهم قرار الإدارة الترامبية، هي غرائزها الأحادية عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، فقد تبنت واشنطن مقاربة عدائية تجاه المؤسسات المتعددة الأطراف، بتحريض من الصقور المتطرفين المسيطرين على السياسة الخارجية، مع تركيزهم على ديناميكيات القوة، كما أن واشنطن عدّت هذه المؤسسات عقبات أمام المصالح الوطنية الأمريكية.
يريد ترامب من المنظمات الدولية، أن تكون جناحاً متقدماً في محاربة روسيا الاتحادية، والصين ودول العالم التي لا تمضي في ركب العنجهية الأميركية، وجاءت موجة الوباء التي تجتاح العالم لتعمق التدخل الأميركي في سياسات يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الانحياز، وتعمل وفق المبدأ الإنساني وحفظ الصحة العالمية، فليس وقت المتاجرة بالموت، وتنفيس الأحقاد...
ترامب فيما يتخذه من مواقف تجاه منظمة الصحة العالمية، ليس الأول من رؤساء الولايات المتحدة الذين يرون مؤسسات الأمم المتحدة مطايا للعبور، ولن يكون الأخير، لكن اللحظة الفارقة في تاريخ العالم مع اتساع موجة الوباء تدل على أن الخطورة كبيرة ومخيفة، فيما إذا تم العمل على تقويض المنظمات الأممية التي تعنى بالشأن الإنساني، بغض النظر عن حديث انحراف بعضها، العالم يحترق بموجة الوباء وجامع المال الأميركي يفرك يديه فرحاً: كم سأجني من هذا الموت الزؤام، ناسياً أن معظم الموتى من دولته، وهنا الطامة الكبرى، فمن يأبه لموت الآلاف من مواطنيه بهذا الوباء، كيف له أن يتحدث عن قيم إنسانية؟
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن ترامب لن يوقف مساهماته لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، لأن تقاريرها تصدر وفق رغبات ترامب في توجيه الاتهامات الباطلة لمن يريد، وليس لتبيان الحقيقة فيما ارتكبت الصحة العالمية (المحظور) بنظره عندما قالت الحقيقة فيما يتعلق بنجاح الصين، في إدارة أزمة كورونا والسيطرة على انتشار الوباء، وفي تقديم المساعدة للعديد من الدول، ومنها أمريكا ذاتها، التي أظهرت وقائع الوباء عجزها الصحي والأخلاقي تجاه مواطنيها، وتجاوزت أعداد الوفيات لديها خمسة أضعاف الوفيات في الصين.
اليوم وباء كورونا يعصف بدول العالم قاطبة، ومن بينها أميركا التي سجلت فيها نسبة إصابات ووفيات عالية، ورغم ذلك إدارة ترامب بقرارها تقول للعالم بوضوح، إنها تفضل أن تموت البشرية كلها على أن تقوض هيمنة الولايات المتحدة السياسية. والأكيد أن ترامب بقراره غير المسؤول يثبت مرة أخرى، أن حياة شعوب العالم وبينهم الأمريكيون أنفسهم، ليست ذات قيمة بالنسبة لساكن البيت الأبيض، إذ لا يختلف اثنان على أن هذا القرار من شأنه إضعاف قدرة المنظمة في التصدي للوباء وعرقلة التعاون الدولي في مكافحته، وبالمحصلة الإضرار بمصالح شعوب دول العالم كافة ومن ضمنها الشعب الأمريكي، وذلك لأن قطع العلاقة مع المنظمة لن ينفع في إنقاذ الوضع الوبائي الحرج في الولايات المتحدة، ولن يفلح في تحميل غيرها المسؤولية، كما لن يخفي الحقيقة بأن إدارة ترامب أهملت عن سابق قصد التحذيرات التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية، ما أدى لانتشار الفيروس وتحوله إلى جائحة.
خلاصة الكلام: في عالم ما بعد كورونا، ستحدث تغييرات استراتيجية في العلاقات الدولية، وربما على مستوى التحالفات السياسية... إننا على أعتاب صراع على قيادة العالم في ظل المتغيرات التي ستحدد الأوزان والحجوم، في عملية تحديد اشتراطات القيادة الجديدة، التي تتخوف مراكز قوى أمريكية من الدور الصيني في هذه العملية، الذين يطلقون على العصر الجديد (إنه العصر الصيني)، وأن العقد القادم ستظهر ملامحه كعصر جديد، قد يعيد التوازن إلى العالم، وينتج نظاما منصفا وعادلا بعيدا عن الحروب والأزمات... عصر لن تكون أجندته عسكرية، وإنما اجتماعية بنائية تركز على الصحة العامة الدولية، ونظافة البيئة ومؤتمرات حقيقية وفاعلة، للحفاظ على المناخ وسلامة الكوكب الأرضي...
*باحث وكاتب صحافي من المغرب.
بريد المحور