*مصطفى قطبي
تحل الذكرى الـ53 لنكسة حزيران/ يونيو 1967، في وقت أُتخمت فيه الذاكرة العربية بكم هائل من الأحزان والأوجاع والآلام، إلى جانب العمليات المتكررة من تزييف الوعي، وغسل المخ لإفقادها حيويتها واتقادها وإفقادها حضور القضايا العربية العادلة. تحل الذكرى وفيما تزداد الأوجاع العربية وتتراكم النكسات والكوارث على شعوب المنطقة، يزداد كيان الاحتلال الإسرائيلي إرهابا وإجراما وتنمرا على الحقوق الفلسطينية والعربية، وانتهاكا لحقوق الإنسان الفلسطيني والعربي.
ليست أحداث اليوم في أقطار العرب بنت ساعتها، أو تنفيذ جاء عرضا وارتجالا، إنما خطط لسيناريوهات متعددة تم وضعها منذ زمن بعيد، تركت لتوقيت مؤات كما هو حال اليوم. لقد كان واضحا تماما، أنه حفر لنظام صدام حسين، ولمعمر القذافي، ولنظام الأسد، باعتبارها (مع كل التمايز) لها صفات قومية وعروبية، مهما حاول بعضها لاحقا أن يتهرب من هذا القدر، الذي تبناه وصار عمره السابق واللاحق. لهذا تبدو هزيمة يونيو/حزيران المشؤومة واحدة من الممهدات التي صنعت لتكون جزءا من معارك ليس لها نهايات، وسيظل الأمر قائما، ولا تبدل فيه لأنه مكون استراتيجي ثابت ضد الأمة.
لم تعد هزيمة حزيران متناً للرؤى والتصورات... ثمة هزائم داخلية أخرى طغت على الإنسان العربي.
غلبتنا الأزمنة واليوم نعارك الحاضر بكل ما فيه من عناصر صراع ضد الأمة. كانت فلسطين سيف العالم العربي وترسه، فإذا بها خيبته ونشيده الجنائزي، وكأنها آثام كل الخاطئين، كما يقول الشاعر السياب. رحلت فلسطين عن دنيا العرب، ليقوم كيان كل مؤهلاته تدمير الأمة، خلق صحراء قاحلة في روحها وفي واقعها، تفتيتها إلى عوالم تتناحر... ويوم تنبه الفلسطيني إلى نكبته وأراد محاكاتها بقوة حضوره الثوري والوطني، قامت الدنيا عليه ومن بينهم بعض العرب، فاسقطوا البندقية من يده، دفعوه إلى التسليم بوجود إسرائيل، وهو من كان قاتلها وجوديا. وحين لا تكون فلسطين، لا يكون أمل بأمة، هكذا نصلها اليوم، وهي تترنح لتفقد وجودها بعدما أسقطوا أقطارها واحدا تلو الآخر...
لا مجال للخوض في التفاصيل، فكلها معروفة تقريبا، حتى وان اختلفت الروايات حسب زاوية الناظر إلى وقائع التاريخ. إنما الخلاصة أن إسرائيل شنت حربا على جبهات جوارها، التي كانت معروفة باسم ''دول الطوق''، وهزمت جيوشها واحتلت المزيد من الأراضي التي لا يزال بعضها محتلا حتى اليوم (الجولان السوري والضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة). جاءت الهزيمة في وقت ذروة المد القومي العربي وشعور العرب ما بعد الاستقلال باستعادة الكرامة والقدرة على تحقيق أهداف الشعوب العربية في البناء والتنمية والتطور. وجاءت الهزيمة لتنسف كل تلك الآمال، وتحول مقدرات المنطقة ـ أو على الأقل مقدرات دول المواجهة ـ نحو ''المجهود الحربي'' بهدف ''العمل على إزالة آثار العدوان''. وتعطلت مشروعات كبرى وتأزمت قضايا اجتماعية/اقتصادية، ناهيك طبعا عن تفجر كثير من الخلافات التي كانت مكتومة بنشوة الاستقلال وآمال التنمية والتطور.
لقد انتصر العدو الصهيوني في معركة ولكن الحرب ظلت مستعرة ومستمرة حتى يومنا هذا. استرد العسكريون العرب شرفهم في حرب أكتوبر 73 على الجبهتين المصرية والسورية. وأثبتت المقاومة قدراتها في فلسطين ولبنان. لقد خلقت المقاومة العربية في العراق ولبنان وفلسطين شرط انتصارها بأن وحدت الشعب في جبهة خلفها، وجعلت كلفة الاحتلال الأمريكي الصهيوني باهظة الثمن، وأطاحت بأحلام الامبراطورية الأمريكية، وسفهت رهاناتها في أمركة الإنسان العربي وفصله نهائياً عن جذوره الثقافية، وأعادت للقضية القومية العربية مكانتها وللشعب العربي كرامته.
أكثر من محزن ومؤسف ما يجري في الساحة العربية عموما من نكوص عن أهداف الأمة في التحرير والوحدة، بل إن جامعة الدول العربية أيضا كرست الانقسام وحالة الضعف عربيا. فاللعبة إياها عادت ومورست، التفرد بكل قطر وعند سقوطه يتم الانتقال إلى الآخر... أمة مقتولة في وحدتها، ومقتولة أيضا في قطريتها، فلا عتب على الغرباء الذين يستسهلون الدخول إليها ورميها في المواجع وفي نار احترق فيها وطن بكل مقاييسه الوطنية. فاليوم لا سورية على خاصرتها ربيع معاش، ولا بغداد الأسود بعدما قاتلتها الضباع، ولا ليبيا التي يريد المحتل التركي أن تصبح ولاية عثمانية، ولا يمن تعيدنا إلى صحوة التاريخ، ولا مصر عليها أن تقود أمة، فإذا بها تواجه عواصف ومؤامرات... ولم تعد فلسطين هي القضية المركزية للأنظمة العربية في الجامعة...
لقد مرت الذكرى الثالثة والخمسون للنكسة، لكنها غابت عن الإعلام العربي أو أغلبه، مثلما غابت القضية الفلسطينية من دائرة الاهتمام العربي الرسمي ويتم إلحاق الشعبي به، في ظل جائحة ''الكورونا''، بل حولت القضية إلى سلعة في لعبة تنازلات جالبة لنكسات أو مؤذنة بتوالي نكسات في أكثر من قطر عربي، وإذا كان الوطن العربي من محيطه إلى خليجه يعيش نكسة واحدة، فها هو اليوم يعيش نكسات، وإذا كان هناك شعب عربي واحد مهجر مشرد، وهو الشعب الفلسطيني، تكالبت عليه قوى الاستعمار واستباحت حقوقه كاملة، فإن أغلب الشعوب العربية اليوم مستباحة حقوقها وثرواتها وفي الملاجئ والشتات والمنافي، وإذا كانت الأمة العربية تؤمن بالقواسم المشتركة وهي العادات والتقاليد والدين والتاريخ المشترك، وتتمسك بها، فإنها اليوم عبارة عن طوائف ومذاهب شتى متناحرة متقاتلة، في عملية استعادة لقيم الجاهلية وحروبها الشهيرة كحرب داحس والغبراء، نزولًا عند رغبة قوى الاستعمار بقديمه وجديده وخدمة لعدو الأمة كيان الاحتلال الصهيوني.
لقد عجز النظام الرسمي العربي منذ نكسة حزيران عام 1967 عن معالجة أسباب النكسة، والتصدي للعدوان الصهيوني الأمريكي، إضافة لعجزه عن تحقيق تنمية حقيقية، بل وحال بين القوى الشعبية في الوطن العربي والتحرك للدفاع عن الأرض المغتصبة ضمن جبهة شعبية عريضة لصد هذه الهجمة الشرسة على الأمة وتاريخها وهويتها.
وللأسف ما نعيشه اليوم، ونتيجة سياسة بعض الأنظمة العربية، وبثهم سموم الفتنة والطائفية لتحويل أبناء هذه الأمة إلى مذاهب تتقاتل مع بعضها بعضاً وتؤدي إلى ضعف هذه الأمة وتفتيتها وتقسيمها أكثر مما هي مقسمة، وتلميع صورة الغرب بعامة وإسرائيل بخاصة ''وفي أنهم لا يشكلون خطراً على الأمة'' وإنما هذا النظام أو ذاك! هو الذي يشكل الخطر، ويستمرون في هذا النهج المدمر للأرض والبشر، وفي المقابل يتباكون على ذلك، وفي الوقت نفسه تستعد شركات النهب الإعمارية، لتقاسم بناء ما دمرته مخططاتهم ومن المال العربي نفسه، الذي كان على أهله أن يوظفوه في تنمية بلدانهم، والقضاء على الفقر وإقامة بنى تحتية تعزز قدراتهم المختلفة، ولاسيما العسكرية منها لمواجهة العدو المتربص بهذه الأمة والحيلولة دون التعرض لنكسات وهزائم جديدة.
إن هذه الأنظمة العربية التي رهنت إرادتها بإرادة أعداء هذه الأمة، وليس بإرادة أبنائها ومصالح شعبها في الأقطار التي تحكمها، ظناً منها أن ذلك سيطيل عمرها ويبقيها متربعة على عروشها، وتدفع النزر اليسير من ثرواتها لأبنائها، بينما تدفع معظم ثرواتها لأعداء هذه الأمة، ويظن هؤلاء في أن فترة الغفوة ستطول، وفاتهم أن الأمم الحية لابد من أن تستيقظ من سباتها، وأن تعرف أين مصلحتها الحقيقية وأن تكتشف مكامن قوتها، وأن تثور على هذه الأنظمة الكرتونية المرتبطة بعدوها الحقيقي ألا وهو الكيان الصهيوني ومن يدعمه، وتحقق انتصارها على هؤلاء الأعداء الداخليين الذين هم أخطر بكثير من العدو الخارجي، فهم الذين مكّنوا هذا العدو وجعلوه في موقع المنتصر علينا...
ففي دحر العدو الداخلي، تسهل مواجهة العدو الخارجي والانتصار عليه، وتالياً لابد من أن نكون مؤمنين بأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، ولا يمكن لهذه الأمة العربية التي حققت في تاريخها القريب والبعيد انتصارات لا ينكرها حتى خصومها، إلا أن تحقق ما يرنو إليه أبناؤها في بناء دولتهم القومية القوية القادرة على تحرير أرضها العربية المحتلة، وأن تكون الدولة الأنموذج في إرساء العدالة ونشر الديمقراطية ومساعدة الشعوب الأخرى في إنجاز حريتها واستقلالها ومحاربة الظلم والاستغلال على وجه هذه البسيطة.
خلاصة الكلام: في ذكرى النكسة ـ وما أكثر نكساتنا وهزائمنا ـ لابد من معرفة العدو دون تهويل، واستيعاب القدرات الذاتية والانطلاق إلى التغيير من خلالها، والمطلوب من القوى القومية والتقدمية في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا العربية من المحيط الأطلسي وحتى الخليج العربي حشد طاقاتها في وقفة لابد منها بوجه الأخطبوط الأمريكي الصهيوني، لتطويق مشروعه التآمري الذي استهدف العراق وليبيا والسودان واليمن والبلبلة في مصر، ومازال يستهدف سورية في عمقها التاريخي والحضاري، والذي يستخدم بعض الأنظمة العربية التي تنكرت لكل ما هو عربي وانخرطت في صفوف الاستكبار الأمريكي الصهيوني.
*باحث وكاتب صحافي من المغرب.
بريد المحور