*مصطفى قطبي
احتفت الأمم المتحدة باليوم العالمي للسلام، وعلى مسمعها أزيز الرصاص، ونشراتها السياسيّة الملطّخة بدماء الأبرياء مكدّسة في دروج مكاتبها الفخمة، وأخبار الاعتداءات تتوالى، والانتهاك السافر للقانون الدولي على أشدّه... أما القارات فتشهد اضطراباً واهتزازاً يصل إلى أحياناً درجة الحروب، من القارة الأمريكية وبخاصة الجزء الجنوبي منها، مروراً بالقارة الأوروبية التي تشهد صراعات سياسية حتى داخل دول الاتحاد الأوروبي، والقارة الأفريقية التي تساهم أحداثها في رفع وتيرة غليانها السياسي بين معظم دولها، أما القارة الآسيوية فيكفي أن نذكر منطقة الشرق الأوسط التي لم تهدأ يوماً واحداً... كل هذا أدى إلى مزيد من التوتر الذي أفرز مجموعات مسلحة في معظم القارات، منها مجموعات تقوم بأعمال إرهابية تخطت حدود البلد الذي نشأت فيه.
والسؤال: لماذا تحتفي الأمم المتحدة باليوم العالمي للسلام وهي لم تستطع من خلال هذا الشعار الذي تبدأ فيه جلستها كل عام وقف الحروب والنزاعات، والأنكى من كل ذلك أن الذين يخطبون في هذا اليوم كدعاة سلام ومحبة يقفون على رأس المعتدين ويشنون الحروب على دول وشعوب أخرى؟!
هل هو النفاق أم التناسي أم إن هؤلاء القادة ينظرون للسلام بمنظور مختلف، فيرون عدوانهم على الشعوب الأخرى سلاماً لهم، والأغرب من هذا وذلك، أن المعتدين والمعتدى عليهم أعضاء في الأمم المتحدة، وأن كليهما يتحدث عن السلام والأمن والرخاء ولا أحد يسمع للآخر وكأنه "حديث الطرشان" !
علماء في الانسانيات اعتبروا ''أن اللغز الحقيقي لعلماء الاجتماع، ليس الحرب والعنف، بل هو ظاهرة غير مألوفة، ألا وهي تحقيقُ السلام''. وبينما ألّف الباحثون مئات الكتب ووضعوا الفرضيات والنظريّات بشأن الحرب، فقد استطاع الخبث السياسي ودهاته اختراع مفاهيم صوريّة، وأخرى ذات طابع نفعيّ بحت، من قبيل "السلام المستدام"، و"السلام العقابي"، و"السلام الديمقراطي"... وتمّ تدوين السلام كاحتفالية (مدنيّة) أيضاً، صوّتت من أجله الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع للاعتراف به دولياً (21 من أيلول)، بينما فشلوا في تحقيق أبسط شروطه، ألا وهو احترامُ قوانين الشرعية الدولية، واحترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها، واحترام حقوق الإنسان. ويبدو أن الأمم المتحدة أدركت استحالة منع انتشار الحروب والنزاعات فابتدعت مخرجاً غير محرج لها بإطلاق عناوين مختلفة لكل عام كعنوان ''السلام والديمقراطية'' و ''العمل المناخي من أجل السلام''...
ومنذ عام 2007 يعتمد كل عام شعاراً معيناً للاحتفاء بهذه المناسبة يرتبط بمفهوم السلام وأهدافه، ويتنوع حسب المعطيات والأحداث التي يمر فيها عالمنا، لكنها وبرغم كل ما تتخذه من إجراءات في ذلك اليوم ظناً منها أنها تسعى لبناء عالم ينعم بالسلام، فإنها بقيت مجرد خطابات لم تتجاوز عتبة مقر الأمم المتحدة في جنيف، ولم تساهم في تحقيق السلام أو حتى التنمية الاقتصادية والاجتماعية لجميع شعوب الأرض. وقد يقول قائل: إنها مجرد شعارات لا تقدّم ولا تؤخرّ، فأغلبية الشعارات والدعوات التي أطلقتها الأمم المتحدة لم تجد يوماً طريقها إلى التطبيق، ومنها شعار اليوم العالمي للسلام لهذا العام 2020 "تشكيل السلام معا". فهل تستطيع الأمم المتحدة منع أمريكا من شن الحروب وافتعال النزاعات مع دول العالم، وهل تستطيع الأمم المتحدة منع الكيان الصهيوني من العدوان على الفلسطينيين والكثير من الدول العربية؟.
منذ عقود وحتى اليوم، فإن الحروب والمآسي التي سببتها بعض الدول الكبرى في الأمم المتحدة والتي صوتت على الإعلان العالمي للسلام زادت في تعدادها عن عدد السنوات التي احتفي فيها بهذا اليوم... فأين السلام الذي تنشده الأمم المتحدة؟!
هذا ليس تهجّماً على الأمم المتحدة ودورها ومكانتها كمقرر عالمي، قراراته يجب أن تكون مُلزمة للجميع، خصوصاً ما يتعلق بالتسويات واتفاقات السلام، وباعتبار أن هذا الأمر هو أساس وهدف تأسيس منظمة الأمم المتحدة التي قامت على أنقاض عصبة الأمم... وهذه الأخيرة كما هو مكتوب- تزويراً وتضليلاً في كتب التاريخ- سقطت بسبب فشلها في منع الحروب والعدوان وليس بسبب طمع الدول التي تحترف الحروب وتصارعها فيما بينها على القتل والنهب والعدوان. ومرة أخرى، نحن لا نتهجم على الأمم المتحدة كما إننا هنا لا ندافع عن عصبة الأمم، ولكن دعونا نفترض أن عصبة الأمم فشلت في تحقيق هدف السلام العالمي... فهل نجحت الأمم المتحدة في ذلك؟
في كل الأحوال، فإن الأمم المتحدة ودورها، خصوصاً الأيام العالمية التي تُعلنها على مدار العام تقريباً بخصوص قضية ما- تاريخية أو إنسانية أو دولية… هذا الدور لم يعد على طاولة أي نقاش داخلي ولا إقليمي ولا دولي، فالجميع يعلم، شعوباً ودولاً، أن النظام العالمي لا تقرره ولا تسيّره الأمم المتحدة وإنما على الأغلب الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان لابدّ من وجود يوم عالمي للسلام، وإذا كانت الأمم المتحدة متمسكة بهذا اليوم، فليتم استكماله. اليوم العالمي للسلام ناقص الأركان، وليكون مكتملاً لابدّ من أن يُرفق بتحديد الجهة /الدولة/ القوة/ التي هي العدو العالمي للسلام، مقابل تحديد الجهة/ الدولة/ القوة التي هي الصديق العالمي للسلام... قد يُجادل البعض بأن كليهما معروف من دون إعلان... ونقول هذا صحيح بلا شك، لكن الإعلان ضروري بل هو واجب... لماذا؟
أولاً، لوصم هذا العدو بالجريمة والعار تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، فلا تنساه الأجيال المتلاحقة، فيسقط من الوجدان الإنساني في كل عهد وفي كل جيل... ومهما بلغ من قوة وجبروت، فتلك الوصمة لابدّ ستسقطه ككيان بكل أركانه وإن طال الزمن قليلاً، ولنا في التاريخ دروس وعبرة. ثانياً، ليبقى الصديق العالمي للسلام حيّاً أبداً، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً... حيّاً بقوة الحق والعدل والإنسانية التي هي دليله ومرشده. هذه القوة لا يمكن إسقاطها أو إسقاط من يقف وراءها، وهي لابدّ منتصرة وإن طال الزمن.
أيضاً... ما سبق ليس تهجماً على اليوم العالمي للسلام، بل هو مبادرة أو تنويه أو إشارة أو لفت انتباه أو رأي- أياً تكن التسمية- وذلك لتكتمل الصورة وليكون اليوم العالمي للسلام يوماً مؤثراً فاعلاً عسى أن تتوقف الدول المعتدية لحظة وتلتفت وراءها وترى المآسي والآلام والدمار الذي تخلفه من دون وجه حق، فقط طمعاً وجشعاً وإجراماً... لتتوقف تلك الدول عن الحرب والعدوان يوماً واحداً فقط وهو اليوم العالمي للسلام كما طالبها الأمين السابق للأمم المتحدة بان كي مون في عام 2015 قائلاً: "لنجعل هذا اليوم- اليوم العالمي للسلام- خالياً من العنف... إذا أمكن العيش ليوم واحد فقط في عالم خالٍ من العدوان والعداء، فيمكن تصور تحقيق ما هو أكثر من ذلك".
هذا اقتراح جيد جداً كبداية... ولكن أحداً لم يعمل به، ليستمر هذا اليوم مثله مثل كل الأيام الدولية التي تقيمها الأمم المتحدة... هذا ليس ذماً إنما هو واقع الحال، ويكفي إلقاء نظرة سريعة على المشهد العالمي لنرى كيف أن العالم يتفجر حروباً جديدة في كل عام... والأنكى أن حديث السلام نسمعه على الأغلب من الدول المسؤولة عن إشعال الحروب، وعلى رأسها طبعاً الولايات المتحدة الأمريكية، فعلاً أو تمويلاً أو تحريضاً... كيف لا وهي تتخذ من السلام ومؤتمراته وقممه وسيلةً للحرب وتشريعاً للعدوان... هذا بالضبط ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة الكلام: إنني أجد أنه من المُهم أن أُذكّر بالسلام في "يوم السلام العالمي" رغم الكم الهائل من الدمار الذي تتعرّض له المنطقة العربية... والحقيقة، وبالرغم من كل المآسي والحروب التي وقعت في منطقتنا العربية، فإن شعوب هذه المنطقة تواقة للسلام وتعمل من أجل تحقيقه، وقد كانت وما زالت تدافع وتقاتل لتحقيق السلام والأمان... فهل يبقى هذا اليوم مجرد ذكرى سنوية يتكاذب الكثيرون فيها، أم إنه سيأتي يوم يعم فيه السلام جميع أرجاء العالم؟
*باحث وكاتب صحفي من المغرب
بريد المحور