*مصطفى قطبي
قال أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، أمام الاجتماع الوزاري للجنة المتابعة الدولية المنبثقة عن قمة مؤتمر برلين حول ليبيا، الاثنين 05/10/2020: "لن تتوافر فرص النجاح والصمود للتسوية التي نسعى إليها ما لم تتوقف الانتهاكات المستمرة لحظر السلاح والاستقدام المتواصل للعتاد العسكري والمرتزقة، وما لم يتم التوصل إلى حل دائم وجذري للتهديد الذي تمثله المجموعات والميليشيات المسلحة".
في الحقيقة، لم نعتد أن نوجه نصائح، خصوصاً أن النصيحة غالباً لا تؤتي أكلها إلا بعد فوات الأوان، حيث ترسخت في أدبياتنا العربية أنها لا تنفع، ولاسيما حين توجه إلى أحمق، أو أرعن، أو متورط، النصيحة سنقدمها للسيد أحمد أبو الغيط، مجاناً لوجه الله، دون أن ننتظر مقابلها شيئاً وهي أن يلوذ بالصمت وأن يكف عن الشرح فيما يخص الأزمة في ليبيا، وهذه أكبر خدمة يقدمها فعلاً، بعد أن كثرت ثرثرته وتشعبت في تفاصيل دون جدوى. نصيحتنا له بالصمت نابعة من إدراكنا العميق بأن أخطاء جامعته العربية القاتلة، لم يعد هناك من مجال لإصلاحها، وإعادة النظر بالكثير من مواقفها لم تعد تجدي، بعد أن أحرقت هذه الجامعة آخر المراكب، وتركت العمل العربي تائهاً في بحر متلاطم الأمواج.
يفترض ألا يمنعنا (الحياء الايديولوجي) من الإعلان، بل من الصراخ بصوت عالٍ، أنّ الجامعة العربية تناست سريعاً دورها في تدمير ليبيا، حين استدعت القوات الأطلسية عبر مجلس الأمن، تناست أنها من تخلّت عن دورها المفترض. وأستميح القارىء عذراً في خطأ أسعى إلى تصويبه، بأن الدور التخريبي والتدميري في ليبيا كان المهمة المطلوبة للجامعة ولمن يديرها من شخصيات نفطية، وتَبعية في الأمانة العامة، فقد احتفى النظام العربي الرسمي ممثلاً بالجامعة بسقوط القذافي مع دخول قوات الأطلسي ليبيا والهيمنة على ثرواتها ورفع علم المملكة السنوسية فوق أكثر من ستين ألف جثة، وفوق الأساس الجديد الذي تقوم عليه ليبيا الجديدة: الحقد الأهلي الأسود القاتم! كانت الخطة الأولية للحلف المذكور هو فتح كافة المنافذ الممكنة لمن أطلق عليهم الثوار الليبيين الذين بدأ الحلف يساعدهم على تخطي فوضويتهم، والوصول بهم إلى الطريقة العسكرية المثلى.
كان واضحا أن مخطط جامعة الدول العربية ـ أو على الأقل بعض النافذين فيها ـ تسليم ليبيا للحلف ليفعل فيها ما يشاء، فكان أن أخضع هذا الحلف سماء ليبيا كلها للأقمار الاصطناعية التي كانت تتابع بدقة تحركات الجيش الليبي والقيادة الليبية التي آمنت منذ اللحظات الأولى أن باستطاعتها الدفاع عن ليبيا، لكن حساباتها باءت بالفشل، أمام المؤامرة التي ساهمت فيها جامعة الدول العربية وقدمت للحلف الأطلسي ذلك الغطاء بل والدعم المباشر. وهكذا كان، فكيفما كان الجيش الليبي يتحرك ضد الشغب الذي مثله الشباب كانت طائرات الحلف تتصدى له بعنف، وقيل إنه في يوم تمكنت طائرات الحلف من ضرب رتل كامل للجيش الليبي ذهب ضحيته عشرات الآلاف دفعة واحدة إضافة إلى تدمير الآليات بشكل كامل وكان ذلك الفعل الشائن يتم تحت لافتة القضاء على الدكتاتورية وإعطاء الشعب الليبي الحرية والديمقراطية... ! الحرية والديمقراطية التي نراها ونعايشها اليوم في ربوع ليبيا، الدولة الفاشلة.
للأسف الشديد، تعاني الدولة الليبية منذ إسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، في سبيل وصولها إلى تسوية سلمية لأزمتها شبه المزمنة ـ من كثرة الرؤوس ـ إذا جاز التعبيرـ وتعدد الخطط والإستراتيجيات وبرامج التسوية بقدر ما تعاني من خطر الجماعات الإرهابية والمتطرفة والتنظيمات المسلحة وجماعات التهريب على اختلاف أشكالها، وهي ظاهرة واضحة وضوح الشمس، فالقوى الداخلية المعنية بالأزمة والتي تسعى لأن يكون لها دور في الحل النهائي كثيرة العدد، والعواصم التي تسعى لتسوية الأزمة عربية كانت أم دولية ليست بالقليلة وطرحت بالفعل مشروعات عديدة للتسوية وصدر عنها بيانات متنوعة وخطط طريق لا حصر لها، فمن الصخيرات وبوزنيقة بالمغرب إلى القاهرة وتونس والجزائر العاصمة وأبوظبي ومن باريس إلى موسكو إلى روما إلى نيويورك، ومن اللجوء إلى موسكو، إلى التوجه لروما للمطالبة ببرامج أمنية مختلفة الأهداف، إلى برلين 1 و2... تعددت الاجتماعات والتحركات والجهود ما بين الحلول العربية والأوروبية والأممية لتتشتت بالفعل الجهود الرامية لتسوية الأزمة، ومن الطبيعي أن تكون هذه التحركات المتعددة تحت مظلات متنوعة ذات دوافع وأهداف سياسية مختلفة، وبرغم أهمية الكثير منها إلا أنها لم تنجح حتى اليوم في الحصول على إجماع وطني ليبي يضع أي منها موضع التنفيذ العملي في إطار خطة سياسية شاملة تجمع كل الليبيين.
فشأنها شأن باقي الأزمات والجراح العربية التي لم تندمل بعد، لم تتبن الجامعة العربية رؤية استراتيجية متكاملة لتسوية الأزمة الليبية، إذ ظل دورها حبيس التصريحات التي يطلقها كبار المسؤولين في الجامعة بين الفينة والأخرى بشأن تسوية الأزمة سلميا... فقد أساءت جامعة الدول العربية كثيرا لنفسها وللأمة ولشعوب المنطقة ولقواعد الإخلاص لأفكارها التي بنيت عليها. لم تعد ذلك المكان الذي يسهر على عالمه العربي كي يؤمن له ديمومة استقراره وأمنه وسلامته ووداعته، تحول بفعل تلك القيادة وما قبلها إلى صورة غريبة عن حقيقة الدور الذي يجب عليها أن تلعبه، إن كل نقطة دم سالت ولا تزال تسيل في ليبيا، هي في ضمير هذه الجامعة التي باتت غريبة جدا عن شعوب المنطقة العربية وعن تطلعاتهم وأحلامهم، ولهذا فقد سقطت من مقامها لتتحول إلى أداة تحركها الاعتبارات الذاتية والانصياعات للغرب...
سوف تظل مأثرة جامعة الدول العربية تجاه ليبيا مثار تندر مكتوبة على جبينها، حين قدمت شتى التسهيلات لحلف الناتو من تدميرها ومن تصيد رئيسها ومن معه... واعتبر ذاك عدوانًا من تلك الجامعة على بلد عربي، ومن المؤسف أن هذه الجامعة آخر من يعلم، أو ربما هي تعلم لكنها لا تريد أن تشارك في الدفاع الوطني والقومي عن أمتها... ومن حسن ''التنظيمات الإرهابية والمرتزقة'' وكل الجماعات التكفيرية وغيرها من الإرهاب، أن تعيش في الوقت الملائم لها، كون الجامعة تلك تعيش عللها، وكون بعض العرب يريدها مجرد هيكلية خشبية غير مؤثرة، بل يريدونها على شاكلتهم وعلى دورهم، وقد لعبته بكل أسف بمهارة فأضاعت بلدا عربيا هو ليبيا. ومن كثير الأسف أيضاً، أن يصل الأمر بهذه الجامعة أن تصبح مبنى له تاريخ، لكنه بحاضر فاجعي مؤلم، وأنها كم شاركت في الماضي وكانت حاضرة في شتى أزمات العرب وفي الدفاع عنهم، واليوم تتحول إلى رمز يفيض بتعدد وجوهه، فهي لمن يملك المال المؤثر، وهي أيضاً موقف جارح لمأساة ليبيا التي لم تزل حدثًا ساخنًا يشير بإصبعه إلى المسبب في حالة التهالك تلك.
إن الحزن لعميق مما وصلته ليبيا المسلوبة الإرادة، المقادة في طريق التدمير الذاتي، غير القادرة على إعادة الحياة لمؤسساتها... فهل يمكن القول إنها وصلت إلى هذه النتيجة من تلقاء ذاتها، أم أن هنالك عوامل أوصلتها إلى هذا الدرك...؟ وليبيا اليوم تمثل أسوأ مراحلها انحطاطًا، وأكثرها شراً، يكفي أن يواصل النظام التركي المارق على الشرعية الدولية والقافز فوق قوانينها التي يفترض أنها تلزم باحترام سيادة الدول واستقرارها، يواصل النظام التركي دحرجة كرة إرهابه المتنقلة على مساحة خريطة ليبيا، بعربدة عدوانية وتدخل سافر بشؤون ليبيا، ويجاهر رئيس النظام التركي رجب أردوغان بكل وقاحة أنه يريد أن يكون له موطئ قدم إرهابي واستعماري في ليبيا، ولتحصيل ذلك يمعن في تأجيج نار الأحداث عبر صب زيت الاشتعال على المشهد الليبي، بمساندته للميليشيات الأخوانية في طرابلس وغيرها، التي يمدها بالأسلحة، وذلك على الرغم من الاستنكار الدولي الواسع لما ينوي القيام به بعد أن تكشفت مراميه الخبيثة من وراء خطط إرسال قوات غازية ومرتزقة مأجورين إلى ليبيا.
وقد لا يكفي الكلام للتحدث عن ليبيا، سوى أنها تعيش في الداخل صراعاتها المفتوحة التي بات يعرف من أين تأتي علاماتها، لكنها جميعها من جهات متطرفة وجدت لها المناخ الفوضوي الذي سمح لها بالخروج على أية سلطة ومقاومة أي كيان ومؤسسات. أصبح معروفاً أين هي أموال الدولة وأين هي المصادر التي تجني منها ما هو في تشغيل خزائنها بما تمليه عليها فهم المؤسسات المنوعة.
بعد خراب ليبيا، اكتشف الليبيون أن المشكلة لم تكن في نظام القذافي، وإنما فيهم، لأنهم لم يهضموا تجربة القذافي لا الفكرية ولا النظرية ولا عوامل تطبيقها. ولقد ظن حلف الناتو أن تحرير ليبيا من القذافي سينشئ دولة مختلفة، فإذ بها على هذه الشاكلة من التخلف الذي لن يتمكن لا الناتو ولا كل أحلاف الأرض ـ مع افتراض حسن النية ـ من إعادة ليبيا إلى سابق عهدها أو رسم طريق مختلفة عما هي عليه اليوم من ممارسات همجية لعناصر وتجمعات لا تحمل أدنى شعور للمسؤولية الوطنية أو القومية ولا حتى تجاه الشعارات التي يرفعونها... وفي هذا السياق، فقد اعترف الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم 11 نيسان 2016 أن أسوأ خطأ ارتكبته رئاسته كان عدم الاستعداد لمرحلة ما بعد القذافي في ليبيا ما يعني دخول البلاد في دوامة حرب لا هوادة فيها ولا نهاية لها...
وليس من رهان على إعادة ليبيا إلى واقعها القديم على الأقل، فالبلد متجه بسرعة إلى عملية تدمير ذاتي لا مثيل لها، تسهم فيها شتى القوى من إسلاموية أخوانية وغير إسلاموية، من قبائل وعشائر، من تفكير أفراد يسعى كل منهم لأن يظل رقماً بين أرقام ولو على حساب تدمير مجتمعه وبلده. وليبيا لن تخرج من هذه المحنة وهي على هذا المنوال من التعاطي الداخلي، فليس هنالك من يريد دولة أو شبه دولة، وليس هنالك من يسعى لتحقيق هذا المبدأ، الكل يريد نفسه فوق الدولة وفوق الشبهات وفوق القانون، والكل يسعى لاقتطاع منطقة نفوذ له، والكل وضع العصي في الدواليب كي لا تقوم قائمة للدولة الليبية التي لم تعد موجودة، وإن كانت شكلًا لها بعض الوجود غير المرئي.
وستذكر وتتذكر هذه الأجيال والأجيال القادمة، أن جامعة الدول العربية أسهمت بتدمير هذا البلد العربي الغني بثرواته، وهي التي منحت الحلف الأطلسي الخلاص من النظام الذي كان قائماً، ثم إدارة الظهر لكل ما نشأ عن ذلك من تفتيت للبنى والمجتمع والمؤسسات والإدارات، ومن تشجيع للأفكار الانفصالية. وها هي ليبيا في عز كل هذه الأمور، لا تعرف مستقراً، وقد لا تعرفه طويلًا إذا لم تقم هنالك قوة للدولة تلغي الموجود وتعيد سطوتها الطبيعية على البلاد.
خلاصة الكلام: على جامعة الدول العربية أن تضع أمامها ليبيا ما قبل عام 2011 وما بعده لتعرف حجم دورها وفداحته، ولتوقن ما فعلته يداها بدفع ليبيا إلى المجهول وإلى اللامستقبل، ولتعلم أن الإدانة والتباكي لن يعيدا دولة كانت آمنة مطمئنة، ولن يردعا إرهابًا يأخذ أشكالًا من التحالفات وأنواعًا من الدعم، ويتكاثر بتكاثر مسمياته وباستمرار دعوات التجنيد فيه... وليس لبلد الشهيد عمر المختار، أن ينتظر من جامعة أبو الغيط أكثر مما كان من جامعة عمرو موسى.
كاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور