المقال السابق

لبنان عون :التدقيق الجنائي يحقق صدقية الدولة دوليا
01/12/2020

المقال التالي

رأي قمة العشرين بين فاعل ومنفعل ومفعول به
01/12/2020
خاص دستور جديد لبناء جزائر جديدة 

*مصطفى قطبي

في المفهوم الاستراتيجي وفي لغة العلاقات الدولية، يقرأ إصرار الدولة الجزائرية على إجراء الاستفتاء على تعديل الدستور الجزائري في موعده رغم جائحة كورونا، على أنه بالدرجة الأولى إعلان رسمي من الدولة الجزائرية عن انتصارها سياسياً، وما يؤكد صحة وجدية هذه القراءة هي مصداقية الإعلان عن نسبة المشاركة بشكل شفاف، بعيدا عن أي مزايدات وأكاذيب، لتترجم وتعكس مصداقية السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات. فقد أظهرت نتائج الاستفتاء على تعديل الدستور الجزائري، حسب ما صرح به رئيس السلطة الوطنيّة المستقلّة للانتخابات في الجزائر محمد شرفي أن 66.8 في المائة من الناخبين الجزائريين صوتوا بـ"نعم" على الاستفتاء حول تعديل الدستور الجزائري، في حين صوت 33.20 في المائة من الناخبين بـ"لا". وقال شرفي أن "ظروف سريان الاستفتاء شكلت تحديا لأي تحرك سياسي مهما كانت" طبيعته، في إشارة إلى القيود المفروضة في إطار مكافحة وباء كوفيد-19. وأشار إلى أن "إقبال المواطن على صناديق الاقتراع رغم (تفشي) الوباء ما هو إلا دليل على استجابته إلى نداء الوطن".

إن الرهانات والأولويات بعد التصويت بنعم على تعديل الدستور، هو التغيير الذي سيطرأ على القوانين العضوية وعلى رأسها قانون الانتخابات وقانون الأحزاب قبل الذهاب إلى الانتخابات المحلية والتشريعية والتكيف مع ما جاء به الدستور في مدة أقصاها سنة، ونجاح العملية الاستفتائية في الجزائر هو خطوة في الطريق الصحيح، وهناك فرص كبيرة لاندفاع هذا البلد المغاربي نحو تحقيق الأهداف الوطنية وفي مقدمتها الإصلاح الاقتصادي والسياسي وإيجاد منظومة وطنية متناغمة، تجعل من الجزائر خلال سنوات قليلة دولة نموذجية في الاستقرار والتنمية الشاملة والتحديث، بخاصة وأن الإمكانات التي تساعد علي تحقيق تلك الغايات موجودة علي الصعيد البشري والمقومات الطبيعية والثروات المختلفة وحتى على الصعيد السياحي. فالجزائر بلد مهم في شمال أفريقيا ولها نضال وكفاح طويل ضد المستعمر الفرنسي لأكثر من مائة عام حتى نالت الاستقلال، بعد أن قدمت ملايين الشهداء، كما أن للجزائر أدوارا قومية لنصرة الحقوق العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية والتي تحاك لها المؤامرات والصفقات المشبوهة.

فالدستور الجديد يفتح للجزائريين الباب نحو جيل جديد من الإصلاحات التي تترجم ترسيخ مبادىء الشفافية في الإدارة وفي تدبير الشأن العام وفي الولوج إلى مناصب المسؤولية، كما ينص الدستور الجديد على إصلاحات عميقة ستمس هياكل الدولة الجزائرية، في إطار دولة مدنية ديمقراطية، لها كل مقومات التطور مع الحياة السياسية، وهي كفيلة بوضع الجزائر على سكتها الصحيحة. ومن المؤكد أنّنا لا نتوقع ولا نتصور أن يتم التغيير دفعة واحدة، ولكن المهم هو إشاعة الثقة بين الناس في إمكانية التغيير، وهذه الثقة لا تتوافر إلاّ في ظل الإعلان عن خطوات جوهرية، تعزز تلك الثقة وتمنح المواطنين كل المؤشرات الإيجابية التي تؤكد أنّ الظرف موات لاتخاذ قرارات جريئة تدعم ما تحقق، تسهم بقوة في تحرير المبادرات السياسية، ترفع سقف الحريات، تعزز حرية التعبير، تكرس العدل، تحمي المجتمع من الفساد والإفساد وتضمن للمواطن ما ينشده من ديمقراطية حقيقية وحياة كريمة. 

فمن الجائز أن يتوفر نص دستوري جيد، لكن قد تعترض تطبيقه على النحو الصحيح لوبيات الفساد، ويشل مضمونه أباطرة الاختلاس. وتؤكد كل المؤشرات الوطنية الجزائرية والوعي المصاحب لها أنّ الجزائر بحاجة إلى إصلاح سياسي جذري، يعيد للدولة هيبتها، ولن تتحقق هذه الهيبة إلاّ بإرساء دولة القانون وتنقية المجتمع من كل الأوبئة التي تنخر كيانه، في إطار مشروع وطني حضاري مستقبلي يعيد الاعتبار لمواطنة المواطن وإقرار حقوقه وحرياته الأساسية، وتحقيق الأمن دون إخلال بالكرامة أو الحقوق الإنسانية والقانونية ووضع تصورات واضحة لا تقيد الأطر الحاكمة لوسائل الإعلام وكذلك ضمان أداء اقتصادي فعال ينمي الثروة بلا فساد ولا احتكار، دون إغفال منظومة القيم وسؤال الهوية. 

وعلى هذا الأساس يُنتظر عمل جبار من قبل المجتمع والأحزاب والنقابات والأسر والقبائل والأوساط المهنية، وكذا كل وحدات الانتماء الصغرى باعتبارها الأرضية الحاضنة للديمقراطية والتعدد. فما يحدث في محيط الجزائر القريب استثنائي وتاريخي بكل المقاييس، ويكفي أنّ تفاعلاته المثيرة مستمرة ورسائله تتدفق دون انقطاع، ولقد بات ملحاً المبادرة بإرادات المخلصين إلى إحداث التغييرات الجذرية التي يتطلع إليها الشعب، وبما يضمن الاستجابة لمطالب الشارع الجزائري، فينبغي المواكبة على صعيد تجديد النخب في الأحزاب السياسية والنقابات، والاحتكام إلى معايير الكفاءة والنزاهة، والتحلي بالقيم النضالية، فمئات الأطر من مختلف الأعمار والمرجعيات والمؤهلات والخبرات النضالية، وضعت نفسها خارج الأطر الحزبية، إما تعففاً أو تأففاً، بسبب ما آل إليه الحقل الحزبي من تدهور شامل. 

فالإصلاح الحزبي بعد الإستفتاء على تعديل الدستور الجزائري، يقتضي الكثير من الإرادية المتعالية على الأنانيات المريضة، والمصالح الصغيرة والضيقة، وذلك لأجل مباشرة عمليات الدمقرطة الداخلية، والتجديد المطلوب ''هنا والآن'' للبنيات والهياكل والعقليات والمسلكيات، بما يفتح الأحزاب على دينامية المجتمع، ويؤهلها لاستقبال واستيعاب الأطر والكفاءات الجديدة التي سيزداد طلبها على الأحزاب، لتحقيق تطلعاتها المشروعة في احتلال مواقع في التدبير التشريعي والتنفيذي للسياسات العمومية. وتبدو الصورة من حول كل مسؤول على أرض الجزائر واضحة، بخاصة وأنّ ما يميز الرغبة في الإصلاح والتغيير أنّها تكتسي إجماعاً وطنياً من القمة إلى القاعدة، والمطلوب هو المضي في الإصغاء الجيد لتلك الرسائل البليغة التي ترسل من الشارع الجزائري وبخاصة الطبقة الكادحة المطحونة، وهي تدعو كل من بيده الحلّ والعقد، أن ينتبه بكل قدراته على الانتباه والوعي والإدراك وأن يفهم الشعب ويعرف قدر الجزائر وقدرة الجزائريين. فما تحتاج إليه الجزائر الآن هو إظهار الجدية في الإصلاح والسرعة به وعدم السماح للمتضررين منه من التأثير فيه...

الجزائر بحاجة لكي يقوم كل المواطنين بدورهم في عملية الإصلاح والمشاركة وعدم الاكتفاء بدور المتفرج أو الناقد لما يجري فقط دون تقديم مساهمة إيجابية وداعمة لعملية الإصلاح، كذلك في الجزائر حاجة ماسة للحديث عن مشاكل كل الجزائريين بصوت عال، وإن محاولة إخفائها لا تجدي ومحاولة تبريرها غير ممكنة ولعله من المناسب الآن الحديث عن أدوار جديدة للمؤسسات التي من واجبها نقل الحقائق وليس تجميلها. فهناك تحدي كبير للمؤشرات التي حملها الدستور الجديد، والتي كانت جواباً شافياً لمجموعة من المطالب، إذ مهدت لأجواء لائقة للنقاش المثمر، كما أعطت فرصاً أوفر لانفتاح أكبر من البديهي أن يتعزز إذا تمت مرافقته بتغيرات جوهرية ديمقراطية في بنيات المجتمع الثقافية والسياسية والاجتماعية. فما تحتاج إليه الجزائر سعة الصدر مع كل الآراء التي تكون تحت سقف الوطن وفي هذا تجليات مهمة تنعكس على كل مناحي الحياة. 

وهذا يجعلنا نشدد على أن ''نعم'' للدستور الجديد ليس بعدها سوى: ''لا'' للفساد في الجزائر ما بعد الاستفتاء الجماهيري على دستور الثورة 2020. فالجزائر الثورة بحاجة لإعادة النظر بالمبادىء الاقتصادية التي من المفترض أن تعيد انحياز القرار الاقتصادي للطبقتين الوسطى والفقيرة، وليس كما جرى في السنوات السابقة لمصلحة أصحاب ثقافة الريع في السياسة وأصحاب امتيازات ولصوص المال العام... فالمطالب المعيشية هي مجرد جزء من المطالب الإصلاحية السياسية الكبرى، وتشمل هذه المطالب الكبرى مشاركة الناس بكثرة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، حيث تعتبر هذه المشاركة المباشرة تفعيلاً للدستور الجديد، ومنطلقاً لمسار من العمل السياسي، الهادف للنهوض بالتنمية في مناخ من الالتزام الجماعي بالقانون، والتعبئة والثقة اللازمة لتحريك عجلة الاقتصاد، وتحفيز الاستثمار المنتج، بما يحقق للجزائريين رؤاهم الوطنية لنظام الحياة في الجزائر الجديدة، إضافة إلى إصلاح الإعلام الجزائري وتحريره من القيود الكابحة للقول والتعبير عن الآراء المختلفة، ووضع النظم التي تحد من الفساد والتخريب بكل أشكاله، ووضع نظام صارم يتمتع بالمراقبة لصرف المال العام بما يضمن عدم التعدي عليه وعدم هدره فيما لا يجني منه المواطن الجزائري الخير، وإصلاح حال مؤسسات الدولة المختلفة التي لا يختلف إثنان على وجود ترهل وضعف في أداء كثير منها، ونشر التعليم ومؤسساته بما يضمن حصول كل جزائري على التعليم الذي يرغب فيه وبما يضمن الصالح الكلّي في استعداده للمستقبل، مع وضع التنظيمات التي تضمن المهنية العالية الحقة في مؤسسات التعليم بكل مستوياته.

خلاصة الكلام: بعد تصويت الشعب الجزائري على الدستور الجديد، ثمة خطة طريق نحو التنمية الشاملة، ونحو تحديث الدولة الجزائرية والقضاء على الفساد والتركيز على مبادئ الشفافية والنزاهة والحوكمة الإدارية، كما أن البرلمان الجزائري يعد من الأدوات التشريعية الهامة لصياغة مستقبل الجزائر في المرحلة القادمة، بخاصة وأن هناك تحديات حقيقية تواجه الجزائر، على صعيد الداخل وحتى على صعيد الإقليم، فالجزائر تعيش مرحلة من أقوى مراحل نموها وتطورها، وباستطاعتها ومن موقع القوة الذاتية، الاطمئنان التام على خارطة المستقبل بإصلاح جذري شامل، يعطي للشعب وللشباب الجزائري بخاصة، الأمل في التعبير عن ذاته وقدراته وفي ممارسة مواطنة كاملة، وفي إعادة بناء الجزائر، وطناً ودولة على مقدمات العصر. 

*كاتب صحفي من المغرب.


 

المحور

الكلمات المفتاحية

مقالات المرتبطة