مصطفى قطبي*
لم يعد المواطن الليبي، يرى في مهمة السلوفاكي يان كوبيتش، المبعوث الأممي الجديد، كيف سيدخل إلى الحرية، بل في حلم المواطن الليبي اليوم من يان كوبيتش، هو كيف سيوقف دورة العنف والقتل والتدمير والتهجير، وتقطيع الأوصال الوطنية، وتحطيم الصورة الحضارية المميّزِ المهم في أرض عمر المختار؟ والمواطن يطالب يان كوبيتش، بأن لا يأتينا من تصوير الميديا الإعلامية الدولية لنا، إذ عليه أن يدركها كل الإدراك ولم تبق اليوم قضايا غامضة، ولم يعد الحراك من كافة الأطراف المعنية بالشأن الليبي يحتاج إلى المزيد من التحليل، والتأويل، والتعليل. فالمبادرات الدولية والإقليمية بين يديه...
ماذا يحمل السلوفاكي يان كوبيتش في حقيبته الأممية إلى ليبيا... وهل استعار سلل سابقيه... أم أن هذا المبعوث الأممي قادم الينا بخفي حنين من عمق فشل المهمة الأممية... حيث لم تسفر تجربة المبعوثين الأمميين السابقين إلى ليبيا سوى عن قاموس من المصطلحات التي كانت تطلق في المبادرات لتكبر حجر التصويب حتى يعجز عن حمله صاحب المهمة الأممية... والأمم المتحدة التي يتبع إليها السلوفاكي يان كوبيتش، مسلوبة القرار ومصادرة الرأي من الولايات المتحدة الأميركية ومن الدول الأوروبية الوازنة كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، فميثاق الأمم المتحدة ينص على حل النزاعات الناشئة بين الدول أو النزاعات الداخلية بالطرق السلمية، فهل المنظمة الدولية مخولة حقاً بتطبيق وتنفيذ هذا البند؟ واقع الأزمات بشكل عام والأزمة الليبية بشكل خاص، ينفي الادعاء أن الأمم المتحدة صاحبة الرأي في هذا المجال، وواقع الحال يؤكد أن الجهات المشغلة والفاعلة في الأزمة هي صاحبة القرار.
ورغم أن مسألة اختيار مبعوث أممي جديد تبدو تفصيلاً صغيراً قياساً بالأحداث التي يشهدها الميدان الليبي وحجم التدخل الخارجي فيه وعلى رأسه التدخل العدواني التركي... إلا أنه لا يمنع أن يكون ساحة مساومات وابتزاز وفرض، وبما يُفشل مهمة أي مبعوث جديد أياً كان ثقله وتاريخه السياسي والدبلوماسي أو حنكته في التفاوض وإدارة خيوط الأزمات... هذا المبعوث تُصبح له أهمية كبرى وأولى فقط عندما يُراد توظيفه كأداة في منعطفات محددة ـ من على منصة الأمم المتحدة ـ لقلب الموازين ومحاصرة طرف ما، وسلبه ما بيديه من أوراق قوة، أو ربما لإعادة خلط الأوراق، أي التلطي خلف المبعوث الأممي لتحصيل مكاسب أو ليّ ذراع أطراف محددة، أو حتى المماطلة في الحلول عندما يكون الهدف إبقاء البلد المعني في وضع متأزم مقلقل.
لقد بدا مستغرباً أن يعكر تعيين مبعوث أممي جديد في ليبيا "صفو" ما يُقال عنه الأجواء الإيجابية المبشرة بقرب حل سياسي شامل يمهد لاستقرار ميداني، يعيد البلاد إلى سابق عهدها كدولة آمنة قوية متنعمة بخيراتها وثرواتها. و"التعكير" مرده الخشية من أن يؤخر هذا التعيين أو يعرقل مسار الحل باعتباره ـ كما يقول المتعكرون ـ جاء في توقيت غير مناسب، إذ إن المبعوث الجديد، السلوفاكي يان كوبيتش، غير ملم بتفاصيل الأزمة الليبية، وقد يحتاج وقتاً ليكون على بيّنة بهذه التفاصيل، ما سيربك المشهد الليبي ومسار المفاوضات التي وصلت إلى مراحل متقدمة، هذا ما يقوله المتخوفون، إلى جانب قولهم بأنه غير حازم بما يكفي! هذا الكلام لا يبدد حال الاستغراب، إذ أنه من المنطقي والمفترض أن يكون ذلك التقدم من العوامل الرئيسية التي ستساعد المبعوث الجديد في نجاح مهمته على عكس المبعوثين الستة الذين سبقوه... أما مسألة عدم إلمامه بالتفاصيل فهذا ليس سبباً مهماً للتخوف إذ إن التفاصيل ليست معقدة بما يَصعُب فهمه على دبلوماسي أممي متمرس في العديد من المهمات الدولية.
يتحدث المتخوفون عن "التوقيت غير المناسب"، فهل يشيرون أو يلمحون إلى دور أممي ما/ أمريكي غير نظيف بهدف عرقلة الحل؟ ويتحدث المتخوفون عن عدم إلمام المبعوث الجديد بالتفاصيل... وهل كان هذا عائقاً في يوم ما، طالما أن لهذا المبعوث دوراً محدداً مسبقاً يدور غالباً في فلك ما تريده الأطراف الدولية المتدخلة؟ ويتحدث المتخوفون عن احتمال أن يأخذ المبعوث الجديد مساراً مختلفاً عن أسلافه، يعيد الأوضاع إلى المربع الأول، ما يعني أيضاً تأخيراً للحل، ولكن كيف يمكن ذلك إذا كانت البعثة الأممية تعمل في الأساس - بالنسبة للمبعوثين ـ أن كلاً منهم يُكمل ما بدأه الآخر، وهل بإمكانه أن يعيد المسار إلى المربع الأول بعد التوافقات التي حصلت والتي توصف بأنها الأهم والأكثر تفاؤلاً حتى الآن منذ اتفاق الصخيرات 2015.
وبعد هذا وذاك نتساءل: هل يستطيع المبعوث الأممي يان كوبيتش إلى ليبيا أن يكون مبعوثاً أممياً أكثر منه أمريكياً...؟ هل يستطيع المبعوث الأممي أن يجمع الليبيين حول هوية وطنية واحدة، دولة واحدة للجميع، من خلال حوار سلمي يشارك فيه الكل بمن فيهم الملكيون والقذافيون وخصوم النظام القديم بما يمكن من التوصل إلى توافق وطني حول المطالب وترجمة هذا التوافق في خطوات دستورية؟
لا شك أن تساؤلاتنا لا تهدف إلى البحث عن إجابات بقدر ما يُرادُ منها إلقاء الضوء على مهام ومسؤوليات مبعوثي الأمم المتحدة إلى الأزمات في العالم والتي تركزت عبر العقود الماضية في دول الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. ونستطيع أن نعدد معاً أسماء كثيرة لمبعوثين أمميين تناوبوا على مهمات في مناطق توتر عديدة بدءاً بالقضية الفلسطينية ولبنان والعراق واليمن وسورية وليبيا وأفغانستان والسودان وصولا إلى عدد قليل جداً في أوروبا وأمريكا كقبرص وكوسوفو وهاييتي، ونستطيع أن نجزم أيضاً أن أياً من المهام تلك لم يكتب لها النجاح نتيجة تدخلات الدول الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة في مساعي المبعوثين الأمميين وتقييد صلاحياتهم وسلطاتهم بما يخدم المصالح الخاصة لتلك الدول.
فهل يستطيع يان كوبيتش، أن يمحو فشل أسلافه؟ أو على الأقل أن ينجح حيث فشل سابقيه؟
لا شك أن المهمة صعبة ولكنها ممكنة في حال استطاع يان كوبيتش، أن يمثل منظمة الأمم المتحدة وأن يلتزم ميثاقها ومبادئها التي تنص على احترام سيادة ليبيا ووحدة أرضها وشعبها، وأن يلعب دور المُيسّر للحوار الليبي- الليبي، وألاَّ يخضع لضغوط الولايات المتحدة التي اعتادت إثارة الصراعات في العالم وتأجيجها وعرقلة أية حلول لا تتناسب مع مصالحها...؟ إن تعيين يان كوبيتش، يشكل فرصة جيدة للأمم المتحدة، تتيح لها الخروج من (الفخ) الذي نصبته بعض الدول الغربية وبخاصة أمريكا، لمسار الحل السياسي، هذا (الفخ) المعيق لعمل أي مبعوث، والمتمثل بالسعي لتنصيب حكم يناسب مصالح الغرب بجعل ليبيا (دولة دمية)، والفرصة التي نتحدث عنها يمكن أن تتجلى في (رسالة تكليف) المبعوث الجديد، بحيث تصف وتحدد مهمته بشكل يتجاوز (الفخ) الذي أعاق المبعوثين السابقين. وقد يسأل البعض، ما المطلوب من يان كوبيش؟
المطلوب من المبعوث الأممي الجديد الآن، هو أن يقف إلى جانب الدولة الوطنية الليبية، ويفصل فصلاً حادّاً بين ما يحصل على الأرض وما يحصل في السياسة، فالحاصل على الأرض ليس له علاقة بالسياسة، وليس له علاقة بما يدور بين الليبيين على مستويات أخرى، فالحوار بين الليبيين يجب ألا يقحم، أو يقحّم، على المشهد العام للحاصل على مستوى الصراع الدموي، باعتبار أن الصراع والاشتباك الحاصل على مستوى الجغرافيا مركب تركيباً خارجياً، ومدعوم من الخارج أيضاً، وبالتالي فإن المطلوب من يان كوبيتش، الضغط باتجاه أن تكفّ الأطراف الإقليمية والدولية عن دعم هذا العدوان، الذي أسس لواقع وبيئة ومناخ دموي، والعمل على تجاوز هذا المعنى أو هذا المشهد، وليس الاستقواء به على الدولة الليبية...
المطلوب من يان كوبيتش، أن يسحب الشرعية من الجسد الفاسد للمجموعات الإرهابية التي تمارس القتل والنهب والسلب والاعتداء على الدولة، ولا يبني على نتائج اشتباكها على الأرض، أو يعطي هذا الاشتباك معاني سياسية، ويسعفه بنتائج افتراضية أيضا، كي يبني عليها أو يصرفها في مواقع سياسية جديدة...
المطلوب من يان كوبيتش، أن يطبق القرارات الأممية، وهو من يمثلها الآن، ولاسيما فيما يخصّ الإرهاب وملحقاته وتبعاته، وعليه أن يتجاوز المعنى الضيق لمفهوم المصالح التي تخص دولاً وقوى أرادت أن تمرّ في الجغرافيا الليبية، وألا يميل إلى التهديد مستقبلا بالاستقالة من مهمته تحت عناوين مزيفة ضارة بمستقبل الليبيين، وإنما عليه أن يهدد بالاستقالة تحت عناوين حقيقية، ليست منفصلة عن الدور الذي تدفعه إليه قوى دولية، تحت عناوين حقيقية لها موقعها الأساس في عدم الاستجابة من قبل الأطراف التي تموّل وتجيش وتحرض على الإرهاب في ليبيا، لمواجهة الدولة الوطنية وإسقاطها...
المطلوب من يان كوبيتش، ألا يساهم في (تفخيخ) منظومة الدولة الليبية، تحت ذريعة إيقاف الصراع على السلطة، وعليه أن يفصل بين العمل السياسي للمساهمة في إنتاج السلطة وبين الاستقواء بذريعة سقوط الدولة تحت آلة الإرهاب، وعليه ألا يستعين على الدولة بمساحة الدماء في الشوارع، وإنما يستعين بالدولة الليبية على المتورطين بكل هذه الدماء، وعليه ألا يشجع على مزيد من دماء الليبيين من خلال البناء على نتائج الاشتباك، والتعويل على إمكانية التقدم الذي يمكن أن تحرزه آلة الإرهاب، وإنما عليه أن ينحاز لمفهوم الدولة والحوار، ويدفع الدولة ويشجعها ويقف إلى جانبها في القيام بواجبها الطبيعي، في التصدي لمن استباح دماء الليبيين... وإذا كان أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة يريد الحل في ليبيا فعلاً، وهو يريد حسبما نشعر، فإن أمامه فرصة مع المبعوث الجديد، ليخرج هو ومنظمته من (فخ الغرب) الخبيث، الذي عرقل ومازال يعرقل الحل في ليبيا، منذ السنوات العشر التي مرت على الأزمة في ليبيا.
خلاصة الكلام: إن مهمة يان كوبيتش، إن لم تكن من ضميره نابعة، ومن حرصه على مستقبل الشعب الليبي، فسيكون كما لاعب كرة القدم الذي يُزج بالوقت الضائع فلا يمكنه أن يعدّل نتيجة، إلا إذا امتلك المهارات اللازمة، ونحن حَلِمْنَا وما زلنا بأن يمتلك المبعوث الدولي الجديد هذه المهارات، وإن لم يكن لديه مهارات وخطة للحل، فليدع الليبيين يخطون مستقبلهم بأيديهم أو على الأقل ألا يعرقل حلولهم!
*كاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور