تحل في 7ذوالحجة ذكرى شهادة الامام محمد الباقر (عليه السلام) هو خامس الأئمة الاطهار الذين نصّ عليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليخلفوه في قيادة الأمة الاسلامية ويسيروا بها الى شاطئ الأمن والسلام الذي قدّر الله لها في ظلال قيادة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وأشرقت الدنيا بمولد الإمام الزكي محمد الباقر الذي بشّر به النبي (صلى الله عليه وآله) قبل ولادته، وكان أهل البيت (عليهم السلام) ينتظرونه بفارغ الصبر لأنه من أئمة المسلمين الذين نص عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) وجعلهم قادة لاُمته، وقرنهم بمحكم التنزيل وكانت ولادته في يثرب في اليوم الثالث من شهر صفر سنة ( 56 هـ ) وقيل سنة ( 57 هـ ) في غرة رجب يوم الجمعة وقد ولد قبل استشهاد جده الإمام الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين وقيل بأربع سنين كما أدلى (عليه السلام) بذلك وقيل بسنتين وأشهر.
وسماه جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) محمد، ولقّبه بالباقر قبل أن يولد بعشرات السنين، وكان ذلك من أعلام نبوته، وقد استشف (صلى الله عليه وآله) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس فبشّر به أمته، كما حمل له تحياته على يد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري.
اشتملت حياة الإمام محمد الباقر(عليه السلام) ـ على غرار سائر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ـ على مرحلتين متميزتين:
المرحلة الاُولى: مرحلة ما قبل التصدي للقيادة الشرعية العامة والتي تشمل القيادة الفكرية والسياسية معاً وهي مرحلة الولادة والنشأة حتى استشهاد أبيه(عليه السلام) .
وقد عاش الإمام محمد الباقر(عليه السلام) في هذه المرحلة مع جدّه وأبيه(عليهما السلام) فقضى مع جدّه الحسين(عليه السلام) فترة قصيرة جداً لا تزيد على خمس سنين في اكثر التقادير، ولا تقل عن ثلاث سنين.
وعاش مع أبيه الإمام زين العابدين(عليه السلام) مدة تقرب من اربع وثلاثين سنة، وكانت سنيناً عجافاً; إذ كانت الدولة الأموية في ذروة بطشها وجبروتها، وقد عاصر فيها عليه السلام كلاً من معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومعاوية ابن يزيد ومروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير وعبدالملك بن مروان والشطر الأكبر من حكم الوليد بن عبدالملك.
وأما المرحلة الثانية فتبدأ باستشهاد أبيه (عليه السلام) في الخامس والعشرين من محرم الحرام سنة (95 هـ ) وهي مرحلة التصدي لمسؤولية القيادة الروحية والفكرية والسياسية العامة وهي الإمامة الشرعية حسب مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وهي لا تنحصر في القيادة الروحية فقط كما لا تقتصر على القيادة السياسية بمعنى مزاولة الحكم وإدارة الدولة الإسلامية.
وقد عاصر عليه السلام في هذه المرحلة الأيام الأخيرة من حكم الوليد بن عبدالملك وسليمان بن عبدالملك وعمر بن عبدالعزيز ويزيد بن عبدالملك وشطراً من حكم هشام بن عبدالملك واستشهد في حكم هشام هذا وعلى يد أحد عمّاله الظالمين.
لقد عانى الإمام الباقر من ظلم الاُمويين منذ ولادته وحتى استشهاده، عدا فترة قصيرة جدّاً هي مدّة خلافة عمر بن عبد العزيز التي ناهزت السنتين والنصف، وعاصر أشدّ أدوار الظلم الأموي، كما أشرف على اُفول هذا التيار الجاهلي وتجرّع من غصص الآلام ما ينفرد به مثله وعياً وعظمة وكمالاً.
واستغرقت هذه المرحلة ما يقرب من تسعة عشر عاماً، وأصّل فيها مسيرة الائمة الهداة من قبله مستلهماً ـ من أجداده الطاهرين وعلومهم والعلوم التي حباه الله بها ـ الاُسلوب الصحيح لتحقيق أهداف الرسالة المحمدية.
واستطاع الامام الباقر عليه السلام خلال تلكم الأعوام أن يقدّم للاُمة الاسلامية أبرز معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في جميع الاصعدة وأخذ على عاتقه تربّية عدة أجيال من الفقهاء والرواة وبنى قاعدة صلبة من جماعة صالحة تتبنّى خط أهل البيت (عليهم السلام) الرسالي السليم وتسعى جاهدة لتحقيق أهدافهم المُثلى.
وأقام الإمام (عليه السلام) طيلة حياته في المدينة المنورة، فلم يبرحها إلى بلد آخر -الا انه اجبر على ذهابه للشام كما سيأتي ذكره-، وقد كان فيها المعلم الأول، والرائد الأكبر للحركة العلمية والثقافية، وقد اتخذ الجامع النبوي مدرسة له فكان يلقي في رحابه بحوثه على تلاميذه.
وقد تخرج من مدرسة هذا الإمام العملاق مجموعة من العلماء الكبار الذين جابوا الأرض شرقا وغربا ناشرين فيها العلم والمعرفة وطأطأت لشخصياتهم المتفوقة الاُمة الاسلامية بشتى قطاعاتها.
وبعد ان اوجس الطاغية هشام خوفاً من أن يفتتن الناس به وينقلب الرأي العام ضد بني اُمية أمر عاملَه على المدينة بحمل الإمام الى دمشق، و أوعز الى أسواق المدن والمحلات التجارية الواقعة في الطريق أن تغلق محلاتها بوجهه، ولا تبيع عليه أية بضاعة، وأراد بذلك هلاك الإمام(عليه السلام) والقضاء عليه.
وسارت قافلة الإمام(عليه السلام) وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت على بعض المدن فبادر أهلها الى إغلاق محلاتهم بوجه الإمام، ولما رأى الإمام ذلك صعد على جبل هناك، ورفع صوته قائلاً:
«يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله تعالى: (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين* وما أنا عليكم بحفيظ).
وما أنهى الإمام هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريته قائلاً:
«يا قوم هذه والله دعوة شعيب ، والله لئن لن تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدّقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم...».
وفزع أهل القرية فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم ، ففتحوا حوانيتهم واشترى الإمام ما يريده من المتاع وفسدت مكيدة الطاغية وما دبّره للإمام(عليه السلام) وقد انتهت إليه الأنباء بفشل مؤامرته.
لقاء الامام الباقر (عليه السلام)مع قسيس من كبار علماء الديانة المسيحية:
التقى الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في الشام مع قسيس من كبار علماء النصارى جرت بينهما مناظرة اعترف القسيس فيها بعجزه ، وعدم استطاعته على محاججة الإمام ومناظرته.
قال أبو بصير: قال أبو جعفر(عليه السلام) : مررت بالشام ، وأنا متوجه الى بعض خلفاء بني اُمية فاذا قوم يمرون، قلت: أين تريدون؟ قالوا: الى عالم لم نر مثله، يخبرنا بمصلحة شأننا، قال(عليه السلام) : فتبعتهم حتى دخلوا بهواً عظيماً فيه خلق كثير، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين، قد سقطت حاجباه على عينيه، وقد شدهما فلما استقرّ به المجلس نظر اليّ وقال: منا أنت أم من الاُمة المرحومة؟
قلت: من الاُمة المرحومة. فقال: أمن علمائها أو من جهّالها؟
قلت: لست من جهّالها. فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون الى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تُحْدِثون؟!!
قلت: نعم. فقال: هات على هذا برهاناً.
فقلت: نعم، الجنين يأكل في بطن اُمه من طعامها ، ويشرب من شرابها، ولا يُحْدِث. فقال: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟
قلت: لست من جهّالها. فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل.
فقلت: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضى.
وبهر القسيس ، وراح يقول للإمام: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟!
فقلت: إنما قلت: لست من جهّالها. فقال : والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها.
فقلت: هات ما عندك. فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعدة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة؟
فقلت: ذاك عزير وعزرة، ولدا في يوم واحد، ولما بلغا مبلغ الرجال مرّ عزير على حماره بقرية وهي خاوية على عروشها ، فقال: أنّى يحيي الله هذه بعد موتها، وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلمّا قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ثم بعثه، فقيل له: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم. وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، وقبضه الله وأخاه في يوم واحد.
وصاح القسيس بأصحابه ، والله لا اُكلّمكم ، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً، حيث توهم أنهم تعمّدوا إدخال الإمام أبي جعفر(عليه السلام) عليه لإفحامه وفضحه ، فنهض الإمام أبو جعفر(عليه السلام) وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله، وعن قدراته العلمية.
لقاء الامام الباقر بالطاغية هشام بعد وصوله الى الشام:
قد ذكر لنا التأريخ الكثير من الحوادث في ارادة هشام ان يطيح بالامام الباقر (عليه السلام) فلما انتهى الى دمشق(عليه السلام)، وعلم هشام بقدومه أوعز الى حاشيته أن يقابلوا الإمام بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه.
ودخل الإمام(عليه السلام) على هشام فسلم على القوم ولم يسلم عليه بالخلافة، فاستشاط هشام غضباً، وأقبل على الإمام(عليه السلام) فقال له:
«يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا الى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم...».
ثمّ سكت هشام فأنبرى عملاؤه وجعلوا ينالون من الإمام ويسخرون منه. وهنا تكلّم الإمام(عليه السلام) فقال:
«أيها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين...».
وخرج الإمام بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسى، ولم يستطعيوا الرد على منطقه القويّ.
وازدحم أهل الشام على الإمام(عليه السلام) وهم يقولون : هذا ابن ابي تراب، فرأى الإمام أن يهديهم الى سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على رسول الله ثم قال:
اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر ، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً...
ثم قال بعد كلام له:
أبِصِنْوِ رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـ تستهزئون؟ أم بيعسوب الدين تلمزون ؟ وأي سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟
هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولى على الغاية، وأحرز على الختار فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّى لهم التناوش من مكان بعيد؟!
ثم قال: فأنّى يسدّ ثلمة أخي رسول الله(صلى الله عليه وآله) اذ شفعوا ، وشقيقه إذ نسبوا وندّ يده إذ قتلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا ، والمستودع الاسرار ساعة الوداع...».
ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه.
وحين احتف به السجناء وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة فبادر الى هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلى بلده.
ولم يستشهد الإمام أبو جعفر (عليه السلام) حتف أنفه، وإنما اغتالته بالسم أيد اُمويّة أثيمة لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وقد اختلف المؤرخون في الأثيم الذي أقدم على اقتراف هذه الجريمة،
فمنهم من قال: إن هشام بن الحكم هو الذي أقدم على اغتيال الإمام فدسّ اليه السم والأرجح هو هذا القول لأن هشاماً كان حاقداً على آل النبي بشدة وكانت نفسه مترعة بالبغض لهم وهو الذي دفع بالشهيد العظيم زيد بن علي (عليه السلام) الى إعلان الثورة عليه حينما استهان به، وقابله بمزيد من الجفاء، والتحقير. ومن المؤكد أن الإمام العظيم أبا جعفر قد أقضّ مضجع هذا الطاغية، وذلك لذيوع فضله وانتشار علمه، وتحدث المسلمين عن مواهبه، ومن هنا أقدم على اغتياله ليتخلص منه.
ومنهم من قال: إنّ الذي أقدم على سم الإمام هو ابراهيم بن الوليد.
ويرى السيد ابن طاووس أنّ إبراهيم بن الوليد قد شرك في دم الإمام(عليه السلام) ومعنى ذلك أن إبراهيم لم ينفرد وحده باغتيال الإمام(عليه السلام) وإنما كان مع غيره.
وأهملت بعض المصادر اسم الشخص الذي اغتال الإمام (عليه السلام) واكتفت بالقول إنه استشهد مسموماً.
واستشهد (عليه السلام) في عمر الـ 58 سنة، وكانت سنة شهادته ـ بحسب الرأي المشهور ـ سنة 114 هـ .
دوافع اغتيال الإمام الباقر (عليه السلام):
أما الأسباب التي أدت بالاُمويين الى اغتيال الإمام (عليه السلام) فهي:
1 ـ سمو شخصية الإمام الباقر (عليه السلام): لقد كان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) أسمى شخصية في العالم الإسلامي فقد أجمع المسلمون على تعظيمه، والاعتراف له بالفضل، وكان مقصد العلماء من جميع البلاد الإسلامية.
لقد ملك الإمام (عليه السلام) عواطف الناس واستأثر بإكبارهم وتقديرهم لأنه العلم البارز في الاسرة النبوية ، وقد أثارت منزلته الاجتماعية غيظ الاُمويين وحقدهم فأجمعوا على اغتياله للتخلص منه.
2 ـ أحداث دمشق:
لا يستبعد الباحثون والمؤرخون أن تكون أحداث دمشق سبباً من الأسباب التي دعت الاُمويين الى اغتياله (عليه السلام) وذلك لما يلي:
أ ـ تفوق الإمام في الرمي على بني اُمية وغيرهم حينما دعاه هشام الى الرمي ظاناً بأنه سوف يفشل في رميه فلا يصيب الهدف فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه والسخرية به أمام أهل الشام. ولمّا رمى الإمام وأصاب الهدف عدة مرات بصورة مذهلة لم يعهد لها نظير في عمليات الرمي في العالم، ذهل الطاغية هشام، وأخذ يتميز غيظاً ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وصمم منذ ذاك الوقت على اغتياله.
ب ـ مناظرته مع هشام في شؤون الإمامة، وتفوق الإمام عليه حتى بان عليه العجز ممّا أدّى ذلك الى حقده عليه.
ج ـ مناظرته مع عالم النصارى، وتغلبه عليه حتى اعترف بالعجز عن مجاراته أمام حشد كبير منهم معترفاً بفضل الإمام وتفوّقه العلمي في أمّة محمد(صلى الله عليه وآله)، وقد أصبحت تلك القضية بجميع تفاصيلها الحديث الشاغل لجماهير أهل الشام. ويكفي هذا الصيت العلمي أيضاً أن يكون من عوامل الحقد على الإمام(عليه السلام) والتخطيط للتخلّص من وجوده.
المصدر : العتبة الحسينية المقدسة