*مصطفى قطبي
أعلن الاثنين 6 يناير الماضي، في العاصمة السعودية الرياض تأسيس تحالف جديد يضم 8 دول تترأسه المملكة، يحمل إسم ''مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن''. وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عقده وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، في العاصمة الرياض، عقب توقيع ميثاق التأسيس من قبل 8 دول هي: السعودية والسودان وجيبوتي والصومال وإريتريا ومصر واليمن والأردن. ووفقاً للاعتبارات الجيوسياسية والتاريخية فستكون مصر والسعودية هما ركيزتا هذا الكيان، كما أن وجود جيبوتى والصومال واليمن يعزز من ضمانات حماية مضيق باب المندب وخليج عدن ومن ثم قناة السويس، كما أن وجود الأردن والسودان يعد تعزيزاً لهذه الحماية.
وقبل كل شيء، لا بد أن نؤكد أنّ أي عربي في هذا الوطن الكبير، هو مع أي خطوة وحدوية، ولكن شرط أن تكون في المسار الصحيح والقائم على مواجهة المشاريع الاستعمارية التي تهدف إلى تقسيم المقسم من أقطارنا العربية، ونهب ثرواتها النفطية وغير النفطية ويأتي المشروع الصهيوني في مقدمة هذه المشاريع، والأساس الذي يتكئ عليه الغرب في تنفيذ مخططاته، فأين المملكة السعودية و''مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن'' من كل ذلك... ! فهي على النقيض تماماً، رضيت لنفسها أن تكون والكيان الصهيوني حلفاً واحداً... ولا يوجد تفسير آخر لإنشاء ما يسمى كيان الدول المشاطئة للبحر الأحمر الممول سعودياً غير ما تبديه الولايات المتحدة من حرص دائم على أمن الكيان الإسرائيلي بعيداً عن الشعارات والعناوين السعودية البراقة في بعدها القومي لا سيّما فيما يخص أمن اليمن واستقراره ووحدة أراضيه، كونه البلد العربي الوحيد الذي يتمتع بميزة الإطلالة الفريدة والهامة على البحر الأحمر وكذا البحر العربي.
لهذا يمثل الإعلان عن كيان السعودية الجديد مؤشراً يمهد لميدان المعركة الاستراتيجية والصراع الكبير في منطقتنا العربية لامتلاك نقاط القوة والتحكم بحركة التجارة العالمية بين القوى الإقليمية والدولية على رأسها واشنطن وبأياد سعودية. ولاشك أن السعودية تريد من خلال هذا الكيان الجديد، قطع الطريق على إيران التي حققت حضوراً واضحاً في أكثر من منطقة هناك، لاسيما في اليمن والجانب الغربي من البحر، ما يعني أن السعودية تسعى لخلق منظومة أمن استراتيجي، تسهم في صياغتها دول البحر الأحمر، ومن ثم يكون هذا الكيان مدخلا لتعاون اقتصادي لربط دول تلك المنطقة ببعضها، وخلق محور أمني وعسكري تكون السعودية ومصر نواته. و لابد من الإقرار، أنّ هكذا كيانات تأتي بالضرورة على حساب تصور عربي مشترك للأمن القومي العربي.
فالأمن القومي العربي في البحر الأحمر (بحر العرب) لا يشذ عن هذه القاعدة، كون هذا البحر إحدى أبرز المناطق الاستراتيجية في العالم المعاصر التي لها تأثيرها الدائم والمستمر في العلاقات الدولية، والمتمكنة من أن تلعب دوراً حاسماً ورئيسياً في توازن القوى العالمية سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، بمعنى أنه توجد مجموعة من العوامل المتضافرة التي تعطي منطقة البحر الأحمر أهميتها الاستراتيجية، منها البحر الأحمر هو همزة الوصل بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، عن طريق البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس وباب المندب، ومنها البحر الأحمر هو أحد الممرات الرئيسية للملاحة والتجارة الدولية بين أوروبا الغربية ودول آسيا وأفريقيا، ومنها البحر الأحمر هو الطريق الرئيسي الذي يمر من خلاله نفط منطقة الخليج العربي إلى الأسواق الاستهلاكية في أوروبا الغربية، ومنها البحر الأحمر هو إحدى الطرق الرئيسية لأساطيل الدول العظمى العسكرية، كما هو منطقة اتصال رئيسية بين القواعد العسكرية لهذه القوى المنتشرة في أماكن متعددة من العالم، ومنها البحر الأحمر تطل على سواحله، وتحيط به مع مجموعة من القوى الإقليمية ذات المصالح والأهداف والاستراتيجيات المتناقضة في أغلب الأحيان.
من هذا المنطلق يمكن تحديد مفهوم الأمن القومي العربي في البحر الأحمر على أنه مقتصر في المرحلة الراهنة وبالدرجة الأولى على سياسة الدول العظمى، ورؤيتها لمصالحها وأهدافها، والتي تدخل عادة في علاقات يغلب عليها طابع الصراع والتنافس، ولاسيما في المجالات العسكرية التي تطغى على غيرها من مجالات أخرى. فقوى الاستعمار القديم- الجديد حين تطلعت لتوظيف الحركة الصهيونية في قلب العالم العربي كانت تدرك أن شعار الصهيونية القائل: ''إسرائيل من الفرات إلى النيل'' سيصبح أكبر مشروع استعماري للهيمنة على العالم العربي والشرق الأوسط كله لأنه يسعى لإخضاع بلاد الشام على البحر الأبيض المتوسط ومعها العراق وبلاد النيل مصر والسودان وبقية دول البحر الأحمر من السعودية إلى اليمن والصومال وجيبوتي.
وكان مركز أبحاث ميتفيم ''الإسرائيلي'' المتخصص بأبحاث عن دول الشرق الأوسط والمصالح الصهيونية فيها قد أعد بحثاً في أيلول الماضي تحت عنوان: ''صراع القوى في البحر الأحمر والمصالح الإسرائيلية في حوضه'' سلّط الضوء فيه على تطورات أحداث اليمن والنزاعات التي يحرض عليها بين بعض دوله، مثل مصر والسودان وأثيوبيا حول حوض النيل وحرب السعودية على اليمن، مشيراً إلى ''احتمال وجود مشاركة للجيش الإسرائيلي فيها إلى جانب السعودية'' بموجب ما تضمنه هذا البحث. فالقيادة في تل أبيب تنفذ وظيفة أمريكية استراتيجية تتقاسم فيها مصالح كثيرة في هذا الحوض الذي يفصل بين دول عربية في آسيا وأخرى في أفريقيا في حوض البحر الأحمر نفسه وتلعب في ساحته كما يحلو لها إلى حد يقول فيه مركز (ميتفيم): إن''إسرائيل لم تصدق نفسها مما حققته من علاقات سرية وعلنية مع دول البحر الأحمر العربية وغير العربية باستثناء اليمن''.
ويرى البحث أن وجود تنظيمي ''القاعدة'' و''داعش'' في اليمن وكذلك في مصر في منطقة سيناء إضافة إلى ''الإخوان المسلمين'' داخل مصر والنزاع بين مصر والسودان وأثيوبيا على مياه النيل أو على الحدود جعل معظم دول البحر الأحمر مقبلة على حروب فيما بينها من الصومال إلى بوابة مصر قرب قناة السويس، بينما تقوم إسرائيل ببناء قواعد في بعض دول البحر الأحمر مثل إريتيريا وتقيم اتصالات مع الحكومة الاتحادية الصومالية لبناء قاعدة فيها .وينضم هذا النشاط الإسرائيلي إلى النشاط العسكري الموجود في حوض البحر الأحمر من القواعد التابعة في بعض دوله لكل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان أيضاً وكأنها ''دولة إقليمية كبرى'' ولها مصالح إمبريالية على غرار دول كبرى. وتتطلع تل أبيب إلى توسيع مصالحها الأمنية والعسكرية في حوض البحر الأحمر لتشمل الاقتصاد وإقامة مشاريع البنى التحتية في بعض الدول لتتحول إلى قوة عسكرية واقتصادية مهيمنة على حوض البحر الأحمر الذي يضم 300 مليون نسمة في اثنتي عشرة دولة من دوله .
فالقيادة الصهيونية تسعى إلى إبقاء مصر منشغلة بالمجموعات الإرهابية في سيناء و بأزمات مع كل من أثيوبيا والسودان في موضوع مياه النيل بهدف فرض نفسها ''كأكبر قوة إقليمية'' تهيمن على دول البحر الأحمر من جهة، وعلى منطقة الشرق الأوسط كله من الجهة الأخرى، وهنا يكمن أكبر خطر على الأمن القومي الشامل للعالم العربي وللشرق الأوسط كله بعد أن هُزم مخططها في سورية والعراق وتحولت جبهة تل أبيب الشمالية الممتدة من تخوم الجولان السوري إلى حدود جنوب لبنان إلى كابوس رعب بدد حلمها بالسيطرة من ''الفرات إلى النيل''.
ويبدو من الواضح، أن الإدارة الأمريكية ستقدم للكيان الصهيوني كل ما يتطلبه لتحقيق الهيمنة في البحر الأحمر من مستلزمات عسكرية ونفوذ أمريكي مادام يشكل الجيش الرديف للجيش الأمريكي في عدد من دول البحر الأحمر، وإذا كان الرئيس ترامب يطالب الدول التي يقدم الحماية لها ويحافظ على نظام حكمها بدفع الأموال مقابل هذه الحماية، فسوف تتطلع تل أبيب إلى المطالبة بحصتها من أموال هذه الأنظمة كثمن للوظيفة التي تقوم بتنفيذها في حماية هذه الأنظمة إلى جانب واشنطن. وتنطلق الاستراتيجية الأمريكية في منطقة البحر الأحمر عبر ثلاثة أهداف: الأول التأكيد على عدم وقوع منطقة الشرق الأوسط تحت سيطرة أية قوة معادية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في حلف الأطلسي وحلفائها في المنطقة، والثاني تأمين وتأكيد بقاء واستمرارية الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، مع دعم مساعيه وجهوده للسيطرة على البحر الأحمر ومضائقه الاستراتيجية، والثالث تأمين تدفق النفط من منطقة الشرق الأوسط عبر الخليج إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين.
ومن حقنا أن نتساءل: ما هو دور تحالف الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن في تأمين الأمن القومي العربي في البحر الأحمر باعتباره بحراً عربياً؟ وبالتالي ما هو دوره في الربط بين الأسطول السادس الأمريكي المتواجد في البحر الأبيض المتوسط والخامس الأمريكي في الخليج الموجود قبالة البحرين، والسابع الكائن في المحيط الهندي؟ وبالتالي هل يكفي الحديث عن أمن البحر الأحمر من خلال القرصنة الصومالية بمعزل عما يجري في ميناء عدن، وباب المندب، وقناة السويس، وخليج العقبة دون الحديث عن ميناء ايلات الإسرائيلي؟
لا يختلف إثنان أو يتناطح عنزان، أنّ السنوات الأخيرة شهدت تحركات غير مسبوقة للتواجد وبناء القواعد العسكرية على سواحل البحر الأحمر، بخاصة السواحل الأفريقية، مما آثار الكثير من الجدل حول العوامل التي دفعت العديد من الفاعلين للبحث عن موطئ قدم في إقليم البحر الأحمر الذي يمثل أحد الأقاليم الفرعية لإقليم الشرق الأوسط، والتداعيات الاستراتيجية المترتبة على الوجود العسكري الكثيف، بخاصة من الدول الأجنبية، على سواحل البحر الأحمر على الأمن والاستقرار في هذا الإقليم شديد الخصوصية. فباستثناء إسرائيل وإريتريا، فإن معظم الدول المطلة على البحر الأحمر هي دول عربية (مصر، السعودية، الأردن، السودان، اليمن، جيبوتي، الصومال). وتبلغ نسبة مجموع سواحل هذه الدول 90 في المائة من إجمالي سواحل البحر الأحمر، الذي يمتد طوله إلى ما يزيد عن ألفي كيلومتر، ويصل عرضه إلى ثلاثمائة كيلومتر، وتبلغ مساحة سطحه إلى حوالي 438 ألف كيلومتر مربع. وخلال هذه المساحة تزدهر القواعد العسكرية التي تسابقت العديد من القوى العربية والأجنبية على إنشائها خلال السنوات الأخيرة، بخاصة على السواحل الأفريقية، حيث تتوزع هذه القواعد بين عدد من الدول.
والأهم من كل هذا هل سيبقى البحر الأحمر في هذا الخضم على جدول أعمال العالم كبحر عربي بمعزل عن إسرائيل، أم ستصبح إسرائيل شريكاً في هذا التحالف لتأمين أمن البحر الأحمر؟.. إنه الاختراق الكبير للأمن القومي العربي، ولأمن العالم برمته، أعدّ له بمخطط امبريالي صهيوني رجعي.
وللأسف المأسوف على شبابه، أن الحديث عن استراتيجية عربية في البحر الأحمر، غير متاح، ولا ميسر، وهو من حيث الواقع والفعل يمثّل الطابع النظري التجريدي التوصيفي، لأن المعضلة الحقيقية التي يمر بها الأمن القومي العربي، في مناطق محددة مثل البحر الأحمر بصفة خاصة، والتي تتحدد من خلال الاهتمامات الرئيسية بقضايا الأمن القومي العربي، تكاد تختصر في مراكز صنع القرار على مستوى الوطن العربي، وبعضها يتطلب الاتفاق حول الحد الأدنى من مفهوم الأمن القومي العربي في البحر الأحمر، وتحديد الأساليب التي يمكن انتهاجها لحمايته، إلا أن واقع السياسة العربية فيما يخص الأمن القومي العربي يختلف تماماً عما يجب أن يكون، لأن الدول العربية تفتقد إلى أدنى حدود المنظور الاستراتيجي الموحد لمعالجة قضايا الأمن القومي العربي، سواء أكان ذلك في منطقة البحر الأحمر، أم في غيرها من المناطق العربية الأخرى، والسبب أن الأحداث الأخيرة في منطقة الخليج العربي تكشف بشكل صارخ عن سيطرة مفاهيم إقليمية للأمن القومي العربي تغلب عليها مفاهيم التبعية، وتبيّن بجلاء تعدد استراتيجيات تحقيق هذا الأمن وعدم توافقها، أما بالنسبة للدول العربية المطلة على البحر الأحمر فالواضح أنها تنطلق من تصورات مختلفة لمفهوم الأمن القومي، وتمارس استراتيجيات متناقضة لتحقيق أهدافها ومصالحها، وهذا ما هو واضح من اختلاف وتعارض وتناقض ردود أفعال هذه الدول ومواقفها من أحداث الخليج العربي الأخيرة، والتي تعكس بجلاء الهوة الكبيرة بين التصورات والتحليلات النظرية المجردة لمفهوم الأمن القومي العربي، واستراتيجيات تحقيقه في المنطقة العربية ككل، أو كجزء منها، وواقع الممارسة الفعلية لبعض النظم العربية التي تعكس عدم وضوح التفكير الاستراتيجي لديها نظراً لاختلاف ارتباطاتها ومصالحها واهتماماتها، والتي تدور في إطار التبعية والقطرية الضيقة، ما ينعكس بصورة سلبية على استراتيجيات وأهداف ومتطلبات الأمن القومي العربي.
وبغض النظر عن الكتابات الموجّهة التي صدرت عن هذا الكيان الجديد، فلم يبق اليوم، في وجه هذه الجرأة ببيع الأرض والحقوق والكرامة علناً أمام العرب سوى إعادة قراءة واقعهم بشكل جذري ووضع خطط إستراتيجية لإعادة إحياء فكر وروح هذه الأمة لكي تكون قادرة على الصمود والمقاومة. وفي اليوم الذي تجاهل العرب نُخبهم ومفكريهم وأصبح أصحاب الثروات هم النخب الحاكمة في ذلك اليوم بدأ التراجع الحقيقي في هذه الأمة على الأرض والحقوق والتاريخ والحضارة والمستقبل، فهؤلاء معتادون على البيع والشراء. في خضم إرهاب الجحيم العربي مؤشر على الدرك الذي وصلت إليه هذه الأمة لا بُدّ من إشعال نار أخرى تحت الرماد، نار العلم والعمل الحقيقيين لإنقاذ العرب من الهاوية التي يدفعهم الأعداء إليها.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.
بريد المحور