المقال السابق

إقتصاد بورصة بيروت أعلنت وقفا إضطراريا للتداول 
06/05/2019

المقال التالي

ميديا تلفزيون لبنان : الموظفون يصعّدون ضد الجراح 
06/05/2019
رأي منظمات «المجتمع المدني»المعاصر: بين العلم السياسي و«اللغة المخادعة»

الاخبار -  جوزف عبدالله   

لعلّه من الطبيعي السؤال: ماذا نعني بعبارة «المجتمع المدني»؟ وماذا يعني أن يكون جسم اجتماعي أو كيان اجتماعي أو شيء اجتماعي ما مدموغاً بعلامة «المجتمع المدني»؟ فكأن المجتمع المدني «وشم» أو «دمغة» أو «ماركة مسجلة» أو علامة (label) لتوصيف وتمييز شيء اجتماعي ما. فما هو هذا الشيء الاجتماعي (أو الواقعة الاجتماعية أو الظاهرة الاجتماعية) المسمّى «المجتمع المدني»؟
بدأت عناصر الجيل الحديث لمفهوم المجتمع المدني بالتكوّن في خضم تحولات كونية عميقة، جيوإستراتيجية وإيديولوجية واقتصادية وسياسية، اعتملت في الغرب الرأسمالي ومن ثم في المعسكر الاشتراكي وبقية بلدان العالم، منذ أواسط السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي. انطلقت هذه التحولات الكبرى تدريجياً مع توسع انتشار الأفكار النيوليبرالية الممهدة لظاهرة العولمة الحديثة. تلقت الدعوة النيوليبرالية دفعاً قوياً انطلاقاً من عام 1979، السنة التي وصلت فيها مارغريت تاتشر إلى السلطة وشرعت رسمياً بتطبيق البرنامج النيوليبرالي في بريطانيا العظمى. وبعد سنة، في عام 1980، يصل ريغان إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية ومعه مشروعه النيوليبرالي أيضاً. 
قامت النيوليبرالية على محاور ثلاثة متكاملة: أولها، تحرير أسعار السلع والخدمات؛ ثانيها، خصخصة كل مجالات الاحتكارات الحكومية؛ آخرها، إعادة النظر في دور الدولة لجهة إلغاء دورها في رعاية المواطنين وتخليها عن معظم مهامها الاجتماعية والاقتصادية من جهة، وإلغاء دورها في ضبط الأسواق وتوسيع مجالها بفتحها وإطلاق حرية تبادل السلع والخدمات وانتقال الأفراد بلا قيود في الداخل والخارج. اعتمدت العولمة على أربعة أنماط من القوى: الشركات المتعددة الجنسية أو العابرة للقوميات، المؤسسات الاقتصادية العالمية (أبرزها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، حكومات الدول، الحركات الاجتماعية (شتى أنماط الجمعيات). واستخدمت بضع أدوات أهمها: اتفاقيات التبادل الحر، المناطق الحرة، برامج إعادة الهيكلة. وهكذا شهدت الثمانينيات انتصاراً ملحوظاً لإيديولوجيا النيوليبرالية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. ومع سقوط جدار برلين، عام 1989، انهار المعسكر الشرقي. و«انتصرت» الرأسمالية وفرضت النيوليبرالية نفسها كفكرة مسيطرة. وتفاقمت الهوّة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب. 
في هذه الأجواء المستجدّة، عاود مفهوم المجتمع المدني الظهور في سياق تصاعد تدريجي في تشكيل جمعيات باسم «منظمات المجتمع المدني». عودة المجتمع المدني هذه جاءت مترافقة مع أزمة النماذج السياسية والاقتصادية التي طبعت بطابعها مرحلة العولمة النيوليبرالية: النموذج الكينزي في الشمال (أوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان)، نموذج الاشتراكية في شرق أوروبا وبعض البلدان الأخرى، نموذج التنمية المتمحور على الذات في الجنوب. ورُفع في هذه المناطق كلها لواء المجتمع المدني في مواجهة الدولة، وترافق ذلك مع شيوع مفاهيم المشاركة واللامركزية والحوكمة الرشيدة ومواجهة الفساد...

ما هو المجتمع المدني؟
منذ بضعة عقود وعبارة «المجتمع المدني» هي من الأكثر رواجاً في اللغة السياسية والتنموية والسوسيولوجية والإيديولوجية، في شتى مناطق العالم. وهي عبارة يتم استخدامها كيفما اتفق، وبمعانٍ متنوعة وغالباً ما تكون متناقضة. وعلى العموم، منذ نهاية الحرب الباردة، فرضت عبارة «المجتمع المدني» نفسها في لغة العامة وفي الخطاب العلمي (الجامعات ومراكز الأبحاث الملحقة بها) وفي التقارير الإعلامية (الصحافة والإعلام) وفي «الأدب الرمادي»، أي ما يصدر من كتابات عن المؤسسات الدولية (الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وما إلى ذلك). حدث هذا الرواج لهذه العبارة دون أن يكون مصطلح المجتمع المدني دائماً ذا مدلول دقيق وموحد.
لنستعرض بعض أشكال تعريف المجتمع المدني. يقدم دومينيك كولا Dominique COLAS التعريف الآتي: «يشكل المجتمع المدني، وقد أصبح «بطاقة تعريف» لجميع أنماط الجمعيات، أو أحياناً «علامة» الفراغ، ميداناً مشتركاً يسمح فيه رواج الحديث بهذا المفهوم بتبادل الكلام دون معرفة المقصود به»(1). 
يصف غوتييه پيرُت Gautier Pirotte في مقاله «مفهوم المجتمع المدني في سياسات وممارسات التنمية» هذا المفهوم بأنه «ظرف فارغ يُملأ بمعانٍ معينة تبعاً للجهات التي تستخدمه وسياقات استخدامه الاجتماعية والثقافية»(2). ويعتبر في نفس المقال أن المجتمع المدني «مفهوم دائم التكوين». 
اعتبرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) أن المجتمع المدني «يُعرَّف بأنه منظمات غير حكومية يمكنها (أو لديها القدرة على) الدفاع عن الإصلاحات الديمقراطية...». كما أن هذه الوكالة وضعت عام 1991 قائمة بما يمكن إدراجه تحت مفهوم المجتمع المدني من الأحزاب السياسية من خلال المنظمات المهنية الوطنية (مثل الجمعيات القانونية أو الطبية أو التجارية أو...)، إلى معاهد البحوث (الجامعات أو أكاديميي مراكز الفكر) إلى رابطات المواطنين (منظمات مجتمع الحي أو النقابات العمالية أو المنظمات النسائية أو جمعيات الآباء والمعلمين).
أما البنك الدولي فتبنّى من جهته تعريفاً للمجتمع المدني أعدّه عدد من المراكز البحثية الرائدة: «يشير مصطلح المجتمع المدني إلى مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. ومن ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات، تضم: الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري»، (موقع البنك الدولي الإلكتروني).
أما الكتاب الأبيض في الحوكمة الأوروبية فيعرِّف «المجتمع المدني» بأنه «منظمات نقابية ونقابات أصحاب العمل (شركاء اجتماعيون)، منظمات غير حكومية، جمعيات مهنية، جمعيات خيرية، منظمات شعبية، منظمات لمشاركة المواطنين في الحياة المحلية والبلدية، وبمساهمة محددة من الكنائس والمجتمعات الدينية» (المفوضية الأوروبية، 2001).

التنمية و«صناعة» المجتمع المدني
واضح مما ورد أعلاه أن المجتمع المدني ما يزال مفهوماً ينتظر تعريفه الدقيق. ومع ذلك فإن هذا المفهوم المتعدد المعاني والملتبس والمربك وموضع النقاش العلمي، نجح في تصدّر الخزان المفاهيمي لـ«المجمع التنموي» complexe développeur، وأصبح من عباراته الطنانة (buzzwords)، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. غالباً ما تعتبر العبارات الطنانة أدوات مفيدة للمجمع التنموي الدولي، فاستعمالها يخلق تأثيراً إيجابياً لدى العامة من الناس. يتم استخدام هذه الكلمات الطنانة، وهي «مفاهيم دارجة» بملامح غامضة ومحتوى غير محدد في كثير من الأحيان، وتوحي بمدلولات مرغوبة: الحد من الفقر، اللامركزية، الشفافية، الدمقرطة... للتغطية على ما في الرؤية النيوليبرالية من مسائل تثير ريبة المواطن: تقليص دور الدولة في سياسات الحماية، الخصخصة، تحرير الأسواق، فتح الأجواء...
إن تدخل المؤسسات المالية الدولية من خلال سياسات المساعدات المشروطة، وإعادة تقييم الأنشطة التنموية لأجهزة الدولة في الجنوب، وانتشار الجمعيات الجديدة في الشمال ثم في الجنوب، تحت التسمية الرائجة المنظمات غير الحكومية «الحمّالة الأوجه» (mots-valises)، وفي موجة إعادة تنشيط أو إعادة بناء نسيج محلي لجمعيات (قروية أو مدينية) مندرجة بانتظام في برامج ومشاريع تنموية، منها برامج مكافحة الفقر مع نهاية الألفية، إن كل ذلك ساهم بربط التنمية بفكرة «مجمع تنموي» فعلي. يشير هذا المصطلح إلى شبكة مترابطة من الوكالات الدولية والوطنية، والمنظمات غير الحكومية المحلية أو متعددة الجنسيات، والخبراء، وجماعات الضغط. هذه الشبكة مسؤولة عن تحديد وتنفيذ وإدارة وتقييم مشاريع وبرامج التنمية. كما ساهم بربط التنمية بدور، يوصف بأنه إيجابي، ويكون منوطاً بـ «المجتمع المدني».
ومن هنا تكون مقولة التنمية حاضنة لـ«صناعة» «المجتمع المدني». فبدل أن يصنع «المجتمع المدني» مشاريع التنمية، كما يبدو للملاحظة غير المدققة، يكون المجتمع المدني واحداً من مشاريع التنمية لخدمة السياسات النيوليبرالية والطبقة السائدة التي تقود هذه السياسات محلياً وعالمياً. اعتمدت النيوليبرالية في ثمانينيات القرن الماضي نظريات التحديث التي اعتبرت أسباب تأخر التنمية في وجود عقبات داخل المجتمعات «المطلوب تنميتها». أما العقبة الأساسية فتكمن في «اختلالات اشتغال الدولة». معالجة هذه «الاختلالات» تستلزم إصلاح الدولة. كيف يكون إصلاح الدولة؟ يكون ذلك بأن تتماشى الدولة مع المعايير العالمية للعولمة النيوليبرالية القاضية بتنفيذ برامج «إعادة الهيكلة». وفي النتيجة تصبح الدولة «دولة الحد الأدنى» لصالح التوسع في حرية الأسواق والأجواء. أما دور المجتمع المدني فهو ملء بعض الفراغ (قليله أو كثيره) الذي يظهر مع تقليص دور الدولة.
إن دراسات المجمع التنموي، وبصفة خاصة الجهات الفاعلة فيه ومعتقداتها وهوياتها وتصوراتها وتحالفاتها، ساهمت في نشوء مقاربة «التنمية» من خلال التركيز على ما سُمي «البنية التنموية»، أي «هذا الجسم العالمي إلى حد كبير المكوّن من الخبراء والبيروقراطيين وقادة المنظمات غير الحكومية والباحثين والفنيين قادة المشروع والوكلاء الميدانيين، الذين يعيشون بطريقة ما على تنمية الآخرين ويقومون لهذا الغرض بتعبئة أو إدارة موارد مادية ورمزية هائلة»... فالتنمية هي سوق وميدان. إنها سوق يتم فيها التداول بالسلع والخدمات والمهن... هي سوق تتعلق بـ«بيع» المشاريع والسياسات والأجهزة والبرمجيات والوظائف. وغالباً ما تتخفى السياسات الكبرى للتنمية خلف «الشعارات - البرامج» («التنمية هي محاربة الفقر») أو الكلمات الطنانة الأكثر غموضاً (الحوكمة الرشيدة، المشاركة، الشفافية، المجتمع المدني...). في هذه السوق للمجتمع المدني دور محفوظ وملحوظ.

مصطلح «المجتمع المدني» يعيق القراءة الواضحة للقضايا السياسية، بقدر ما يغطي الطبقات المختلفة والمتناقضة

ولذلك يدعو غوتييه پيرُت إلى مقاربة المجتمع المدني «كمشروع»، مقترحاً فهمه باعتباره مشروعاً تتضافر عدة عناصر لخلقه، منها ديناميات خاصة بالمجتمعات التي ينشأ فيها، ومنها ديناميات خارجية، هي اتجاهات عالمية تفضل ظهور بعض المجموعات على الساحة الوطنية والدولية (المنظمات غير الحكومية - المجتمع المدني). ووفقاً لذلك، فإن ظهور جمعيات المجتمع المدني يرجع إلى وجود علاقة بين الديناميات الداخلية للدولة (الإصلاحات الاقتصادية والسياسية على المستوى المحلي، والطفرات الاجتماعية الخاصة بسياقات الانتقال)، والديناميات الخارجية (سياسات دعم بعض الجهات الفاعلة، وجدول أعمال التنمية، ومشاركة الاتجاهات التي يفرضها المجتمع الدولي). لذلك، يتطلب المجتمع المدني تحليله كمشروع دائم التكون والتعريف. 
وهكذا يكون المجتمع المدني هو الجماعة (مجموعة من الأفراد أو جمعية ما) التي تم خلقها في ظروف معينة ومراحل معينة لتقوم بمهام محددة من قِبل الجهات الفاعلة دوليّاً ومحليّاً. وعليه لن يكون هناك مجتمع مدنيّ واحد، بل مجتمعات مدنية. ويُستنتج من ذلك أن المجتمع المدني هنا لا يعود على صلة بالفعل التعاوني. خلال التسعينيات من القرن الماضي، أصبح دعم المجتمع المدني خطّ ائتمان منتظماً لميزانيات «شركاء التنمية» الرئيسيين. وغالباً ما يتم توجيه هذه الأموال نحو هذه الجمعيات الجديدة. علاوة على ذلك، وبالإضافة إلى تحرير بعض الأنظمة الاستبدادية (اشتراكية أم لا) والانتعاش الرسمي لحق تكوين الجمعيات، فإن انتشار هذه المنظمات غير الحكومية خلال أواخر الثمانينيات والتسعينيات يرجع أيضاً إلى زيادة الدعم من قِبل المؤسسات الأبرز في المجمع التنموي الدولي لهذه الجمعيات بتعلة تمتّعها بمزايا إيجابية (المرونة، الوصول إلى فئات مستهدفة محددة، القدرة على تعزيز المشاركة... مقارنة بهياكل الدولة التي كانت عرضة للنقد الشديد).
إن هذا الدعم المقدم للمنظمات غير الحكومية باسم تعزيز المجتمع المدني لم يتّخذ شكل التدفقات المالية فحسب، بل تقدّم أيضاً إلى ما هو أبعد من ذلك. بالنسبة إلى الجهات المانحة لقطاعات المنظمات غير الحكومية الجديدة، لم يكن الأمر مجرّد دعم ماليّ لمشاريع التنمية التي تعدّ المنظمات غير الحكومية منفذة لها؛ بل تم اعتماد سياسة تحديث، تسمى «التمكين»، والتي اتّخذت شكل استراتيجية برمجة وانتقائية زبائنية لهؤلاء الوسطاء الجدد في مجال التنمية المحلية. تجسدت هذه السياسة في تعدد الحلقات الدراسية، والدورات التدريبية التي دعا إليها «الشركاء» الغربيون قادة المنظمات غير الحكومية المحلية. وكان من شأن نظام التدريب والإعداد هذا أن يعزّز العلاقة الزبائنية التي ترسخ تبعية هذه الجمعيات للممولين الغربيين.

المنظمات غير الحكومية (3) 
لنستعرض أبرز جمعيات «المجتمع المدني» العالمية: «المنظمات غير الحكومية» Non-Governmental Organizations هي جمعيات لا تعريف لها في القانون الوطني كفئة قانونية محددة بشكل خاص، وكذلك حالها في القانون الدولي. ونظراً إلى تنوع هذه الظاهرة وعدم تجانسها يستحيل على أي تعريف لها الحصول على إجماع حوله. يظل مصطلح «المنظمة غير الحكومية»، حتى في سياق الأمم المتحدة، مفهوماً غير معرّف قانونياً، ويغطّي مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة غير الحكومية، معظمها عابر للقوميات. مؤخراً، تمّ التوافق على معايير ثلاثة، في اجتماعها يتبلور تعريف المنظمة غير الحكومية: استقلالية عن أجهزة الدولة، غاية غير ربحية، بنية تنظيمية مستقرة ومستدامة. واضح غياب مفهوم العمل التطوعي عن هذا التعريف.
وعلى الرغم من الاسم «منظمة غير حكومية» الذي يوحي بعدم وجود علاقة مع الدولة، فإن العديد من الجمعيات التي تحمل هذا الاسم على علاقة معقدة بالدولة. يتم التعبير عن ذلك في تكاثر الاختصارات المثيرة التي تشير إلى «أشكال مختلطة من المنظمات غير الحكومية». فمنها المعروفة باسم «المنظمات غير الحكومية التي تنظمها الحكومة» (GONGOs /Government-Organized NGOs)، وهي ليست جزءاً رسمياً من جهاز الدولة، ولكنها لأسباب مختلفة أنشأتها الدول لتمثيل مصالحها... في قطاع التنمية، تُجبَر الدول غالباً على استخدام المنظمات غير الحكومية للوصول إلى أموال المساعدات الدولية، والتي لا يمكن توزيعها محلياً إلا من خلال المنظمات غير الحكومية المحلية. كما يتم تمويل ما يسمى QUANGOs (شبه المنظمات غير الحكومية /Quasi NGOs) إما بالكامل أو إلى حد كبير بفضل الأموال العامة. إنها لا تفقد بالضرورة استقلاليتها في العمل، طالما أنها تنوع مصادر تمويلها بما فيه الكفاية ولا تعتمد بالكامل على دولة واحدة. هناك أيضاً أنواع أخرى من مصادر التمويل، مثل «المنظمات غير الحكومية التي تنظمها الجهات المانحة» (Donor-Organized NGOs /DONGOs). يشير هذا المصطلح إلى المنظمات غير الحكومية المكلفة من قِبل منظمات مانحة دولية بإعداد برامج المساعدة الإنمائية. فالبنك الدولي، على سبيل المثال، يعمل على نطاق واسع منذ سبعينيات القرن الماضي مع منظمات DONGOs، المسؤولة عن تنفيذ المشاريع التي يمولها كمزوّدة للخدمات. أظهرت بعض الدراسات أن العديد من المنظمات غير الحكومية DONGOs العاملة في مجال المساعدات التنموية فقدت استقلالها التشغيلي والسياسي نتيجة لاعتمادها على المانحين على مستوى الدول، وأصبحت وكالات لتنفيذ سياسات هذه الدول. خلال الحرب الباردة، اتبع الاستخدام السياسي للمنظمات غير الحكومية DONGOs، خط النزاع الشرق/ الغرب. 
يبقى أن نشير إلى أن الاحتراف في المنظمات غير الحكومية غيّر من طبيعة جمعيات «المجتمع المدني». لقد تحولت إلى الاحتراف الذي يستلزم البحث الدائم والسعي المستمر لتوفير الدعم المالي المطلوب لتأمين رواتب المحترفين. هكذا بعد أن كانت هذه المنظمات تقوم على العمل التطوعي، تطورت بسرعة نحو العمالة المأجورة (لوجستيون، إعلاميون، إداريون، أطباء، مهندسون، مدرسون، محامون...)، وباتت بالتالي خاضعة في عملها لمنطق: «من يَدفع يُشَغِّل». 

المجتمع المدني، وهم الديمقراطية؟
المجتمع المدني والحوكمة الرشيدة وغيرها من العبارات الطنانة التي تكمن خاصيتها الأساسية في التباس دورها: ليس لها تعريف واضح وحازم. يمكن أن تؤخذ الكلمات بمعانٍ مختلفة طالما أنها على دلالة إيجابية. إنها كلمات «حمالة أوجه» تتيح مثلاً لكل من أنصار العولمة البديلة ومؤيدي الليبرالية المتطرفة استخدامها(4). إن هذه الكلمات الضخمة، وهي بمظهر علمي، تشترك في تبليد الذهن وإضعاف التفكير. هي كلمات فارغة من المعنى الدقيق، ولكنها غنية بالافتراضات المسبقة والأخلاقية، وتشكل العمود الفقري لما أطلق عليه أورويل «اللغة المخادعة». 
في سياق الحوكمة الرشيدة، مثلاً، يتم تقديم مشاركة «المجتمع المدني» في الحياة العامة كتوسيع لمجال الديمقراطية. بيد أن هذه المشاركة تحل في الواقع مكان السيادة الشعبية وانتخابات المواطنين. إن المفارقة الكبرى في موضوع الحوكمة هي أنه يُطلب منا توسيع الديمقراطية لتشمل «المجتمع المدني»، في حين أنه هو بالضبط مجموعة العلاقات التي لا يكون الأفراد فيها مواطنين. فالفرد لا يكون مواطناً إلا متى كان عضواً في شعب ذي سيادة ويمارس سيادته. باختصار، مصطلح «المجتمع المدني» يعيق القراءة الواضحة للقضايا السياسية، بقدر ما يغطي الطبقات المختلفة والمتناقضة.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن المجتمع المدني يسهم في تآكل السيادة الوطنية. يكثر الكلام في أيامنا عن مجتمع مدني عالمي أو دولي أو معولم. لا شك أن مجتمعاتنا اليوم أكثر خضوعاً من الأمس لإملاءات اللاعبين الاقتصاديين المعولمين، وذلك في عالم حولته التكنولوجيا ووسائل التواصل أكثر فأكثر إلى حجم بلدة. لهذا يتم إفراغ الساحة الوطنية من معناها وتماسكها من حيث أهميتها لصالح ساحة دولية لن يتم تنظيمها دون إلحاق الضرر بالساحة الوطنية. يواجه السوق المعولمة والمجتمع الدولي مجتمع مدني عالمي، يُفهم كوسيلة يتم من خلالها تشكيل مجموعة من القواعد العالمية وإطار من الإدارة العالمية للشؤون الاقتصادية والسياسية المحلية. يرتبط بهذه الفكرة تآكل مفهوم السيادة، فكرة أن الدولة (ومجتمعها) تخضع بشكل متزايد للقواعد العالمية، التي يكون المجتمع المدني واحداً من أدوات هذه القواعد ومروجيها.

الخصخصة والمساهمة في «خصي الدولة»
لفهم كيفية حدوث الاستثمار النيوليبرالي لمفهوم «المجتمع المدني»، من الضروري العودة إلى حيث تم الإعلان تاريخياً عن وجود قوة اجتماعية معلنة عودة «المجتمع المدني» بالقوة: أوروبا الوسطى والشرقية. بعد سقوط جدار برلين (1989): تم تعريف «المجتمع المدني»، بطريقة معيارية، كمكان للانتقال إلى الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق. هذا المفهوم الذي تم اعتماده من قبل المنظرين النيوليبراليين للتحولات الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم وفي غيرها، واعتباره فقط كمحدد للشروط اللازمة للانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية الليبرالية المتماهية بالرأسمالية.
إن ما أطلق عليه بانتظام «يقظة المجتمع المدني» (الطفرة في تكوين الجمعيات) يندرج في السياق الخاص للنقد الجذري لدور الدولة كفاعل في التنمية الاقتصادية والسياسية (من مفاعيل النقد الدعوة إلى تنفيذ خطط إعادة التكيف الهيكلي، تعزيز الحوكمة الرشيدة، الدمقرطة، اللامركزية، الشفافية، المجتمع المدني، إفساح المجال أمام الفاعلين الاجتماعيين...). خضعت دول العالم الثالث، خاصة دول التجارب الاشتراكية، لنقد مبرر في كثير من المجالات. ولكنه من الضروري التشكيك بالانزلاق العفوي (أو بالاتجاه المقصود غالباً) من نقد الدولة الاستبدادية (والدولة الفاشلة وثغراتها) إلى نقد مبدأ دور الدولة ووجودها بالذات. لقد صارت الدولة توصف بأنها عديمة الجدوى وفاسدة وبيروقراطية، وبالتالي عليها التراجع وإفساح المجال أمام المبادرة الخاصة، والقطاع غير الرسمي، ودينامية الجمعيات التعاونية وغيرها من «المنظمات الشعبية» باعتبار هذه المؤسسات تجسيداً مثالياً للمجتمع المدني. وعليه لم يعد السيناريو المطروح عملية لنقد الحكم الاستبدادي، بل عملية لـ«خصي الدولة». ويتم ذلك من خلال تفكيك الدولة، وإعادة تكوينها بتقليص دورها كثيراً في سياق مضاعفة الضغوط والفرص الدولية. كثيراً ما تتجاهل المنظمات غير الحكومية الدولة وتحل مكانها، فبدل قيام الدولة بواجباتها تقوم بها هذه الجمعيات. بعض هذه المنظمات التربوية أو الصحية أو التنموية أو البيئية أو منظمات الرعاية الاجتماعية تميل إلى الحلول كلياً أو جزئياً مكان الدولة، وذلك بتواطؤ الدولة بالذات (أحزاب الطبقة المسيطرة في البرلمان والحكومة) التي لا تتردد في تمويلها للقيام بمشاريع واسعة النطاق. وهذا ما نلاحظه كثيراً في بلادنا من خلال الجمعيات التي ينظمها ويديرها أبناء الطبقة المسيطرة والمسؤولون في الحكم من نواب ووزراء، أو غيرهم من المحظيين في العلاقات مع المراجع الخارجية والممولين. 
وبهذا المعنى لعبت هذه الجمعيات دوراً في خصخصة جزئية في الخدمات العامة الموافقة لاختصاص كل واحدة من هذه الجمعيات. وهذا ما يعكس نقصاً في الممارسة الديمقراطية، لأن هذه الخصخصة حصلت بتحويل عملي لهذه المنظمات غير الحكومية إلى مؤسسات تقوم بمهام أجهزة الدولة. وذلك مع فارق جوهري: هذه المنظمات غير ملزمة رسمياً بالاستجابة إلى حاجات ومطالب المواطنين، كما لا يمكن للمواطنين الاعتراض عليها. وكما هناك «عمالة سوداء» و«سوق سوداء» أصبحت هذه الجمعيات أجنّة لدولة موازية، هي «دولة سوداء». وبطبيعة الحال تميل هذه «الدولة السوداء» لخدمة الطبقات السائدة وأحزابها في السلطة وتتجاهل مصالح الطبقات الفقيرة. 
وفي الحقيقة فإن قضية المجتمع المدني كمحرك لحكم أفضل ومساءلة أكبر للزعماء ليست محايدة، وإن كانت تدعي ذلك. فهي في الواقع، تعكس وتؤكد «قراءة ليبرالية للواقع» متمفصلة حول معارضة معيارية بين الدولة والمجتمع المدني: الدولة ترقى إلى مستوى القيد، والمجتمع المدني يرتقي إلى الحرية. إنها قراءة تبرئة للطبقة السائدة واتهام للدولة فحسب. مختصر ذلك أننا نكون أمام مجتمع (العالم فيه) منقسم بين من يقدمون المساعدة (الجمعيات والممولون الدوليون والمحليون من أفراد وأحزاب الطبقة السائدة) من جهة، ومن يتلقونها (الفئات الشعبية من عمال وفلاحين وصغار الكسبة والعاطلين عن العمل) من جهة أخرى. وهذا مشهد مطلوب من الطبقة السائدة ترويجه، وهو مقبول بنظرها أكثر بكثير من عالم منقسم بين مرفهين، أو ظالمين (الطبقة السائدة) من جهة، ومعدمين (الطبقات الشعبية الفقيرة) من أخرى.

صحيفة الاخبار

مقالات المرتبطة